إن التغيير الديمقراطي المطلوب في سورية هو في صالح الجميع، إذا ما تم التحرر من المصالح الذاتية الآنية، وتحققت صيغة مقبولة من المصالحة الوطنية؛ تُرفع بموجبها المظالم، ويعوّض أصحاب الحق بعد الاعتذار منهم؛ وأفلحنا في الوصول إلى مستوى من الوعي الاستيعابي، يمكّننا من تلمّس معالم المستقبل السوداوي الذي ينتظرنا، وذلك فيما إذا سارت الأمور على منحاها الراهن؛ وهو أمر نبّه إليه الفاضل الدكتور عارف دليلة قبل اعتقاله، وما زال يدفع ثمن جهل وجشع تلك الزمرة التي اختزلت الوطن وأهله في ذواتها ومصالحها النهمة لتي لا تعرف حداً من جهة القيم، ولا سقفاً من جهة الاكتفاء.


وما نجم عن هيمنة الزمرة المعنية هذه على دفة السياسة والاقتصاد في البلد في إطار نظام أمني شمولي، يتحكم بالمفاصل العامة والخاصة في الدولة والمجتمع، بل يمتد هذا التحكم ليشمل حريات الأفراد ونشاطاتهم المختلفة، لاسيما الاقتصادية منها. ما نجم عن هذه الهيمنة تمثّل في ارتباط قوى التغيير المطلوب المحتملة بالمحور السلطوي القائم ارتباطاً بنيوياً وظيفياً، تستمد منه الحد الأدنى من مقوّمات الاستمرار من ناحية، وتلتزم المسارات التي توائم المحور المعني، وتحقق له خططه وبرامجه من ناحية أخرى. وما يتمخض عن كل ذلك يتماهى مع حلقة سحرية مفرغة، تقوم على تركيبة هجينة بين مفارقات متعارضات، محكومة بالتواصل في ظل غياب البدائل القادرة المطمئنة.


فالفعاليات الاقتصادية تعاني من الضعف والترّهل والفساد والإفساد، وهي عوامل كابحة تتمثل في المحسوبية والهدر والرشاوى بأسمائهما وأشكالها كافة، والإهمال والإقصاء، والتخلف بالمقاييس الإقليمية والدولية،وهي كلها أمراض ناجمة عن سيطرة زمرة القرار وأذرعها الأمنية على مقدّرات البلاد والعباد، وتعاملها مع الجميع بموجب قواعد علاقة الأسياد مع العبيد. ولن يكون هناك أي علاج لجملة الأمراض المزمنة هذه التي يعاني منها الاقتصاد السوري بميادينه المختلفة ما لم ترفع الزمرة المشار إليها يدها عن هذا الأخير، وتكف عن تدخلاتها فيه؛ تلك التدخلات التي تتسبب في وأد الإبداعات، وقتل المبادرات، وامتصاص الفوائض؛ وهذا لن يتحقق إلا في ظل نظام ديمقراطي شفاف، يستمد مشروعيته من إرادة المواطنين الأحرار، ويخضع للمساءلة الديمقراطية الجادة، التي تحدد مواطن الخلل، وتمكّن من محاسبة المقصرين، واتخاذ الخطوات التقويمية في الوقت المناسب.


ولكن السؤال هو: من هي تلك القوى المؤهلة راهناً للتصدي لمهمة التغيير الديمقراطي، هذا التغيير الذي يشكل المدخل الواقعي للخروج من المأزق الكارثي الذي تواجهه سورية على مستوى الدولة والمجتمع، نتيجة الإخفاقات المترتبة على القصور الأدائي لمجموعة القرار؛ وهو قصور مردّه الإصرار على تحجيم وتقزيم احتياجات الوطن وأهله، لتغدو موائمة، مطابقة لتلك التطلعات الذاتية لأفراد المجموعة المعنية، وهي غالباً ما تكون متعارضة متناقضة، الأمر الذي يزيد من حدة الإرباك الذي يتمظهر في سلوكيات عُصابية تفتقر إلى التوازن والهدوء وبعد النظر.


إن التغيير المطلوب يقتضي وجود قوى اجتماعية-اقتصادية فاعلة، تمتلك قسطاً كافياً من القدرة على التأثير والتحرك بحرية بعيداً عن هيمنة الأجهزة الأمنية وملحقاتها؛ قوى تثق بذاتها، وتدرك أهدافها، وتعتمد في تحركها على قاعدتها الشعبية، وتعبّر عن توجهاتها من خلال فعل سياسي يتأطر ضمن هذا الفصيل أو ذاك، فعل يمثل - في سياق التعاون والعمل المشترك بين مختلف الفصائل - البديل الواقعي المستقبلي المقبول للموجود القائم المستنفذ.


والمشكلة الأساسية التي تستوقف بالنسبة إلى الحالة السورية، تتجسد في الشرخ الحاصل بين الحامل الاجتماعي - الاقتصادي، والمعبّر السياسي، الأمر الذي يحول دون بلوغ الطرف الأول ( الحامل الاجتماعي - الاقتصادي) مرحلة القدرة على التأثير في ميزان القوى الداخلي، وظهور الطرف الثاني (المعبّر السياسي) في هيئة عاجزة، كسيحة، يتغنى بالمواويل القديمة، يعتقد خطأ أن النوايا الصالحة والبيانات الفصيحة من شأنها إثارة النخوات، وتحريك الضمائر. وما يلاحظ على صعيد هذا الطرف، أنه يصر على صوابية الطروحات والممارسات السالفة، ولا يجري عملية مراجعة نقدية جريئة، من شأنها تحديد مواطن الخلل؛ والعمل على إقامة الجسور مع المجتمع عبر طاقاته الفاعلة، بغية الوصول معاً إلى مرحلة تفاعلية متقدمة، تعزز الثقة لدى الناس بإمكانيات البديل، وقدرته على التشخيص والمعالجة، والخروج من الشرنقة القاتلة، نحو فضاءات رحبة، تزدهر فيها الإمكانيات والإبداعات، وتتمازج في حصيلة وطنية تكون بالجميع ولصالح الجميع.


إن القوى الاجتماعية - الاقتصادية السورية ممثلة بالعمال والفلاحين والبرجوازيين على اختلاف تصنيفاتهم من جهة القوة والموقع، وطبيعة التداخل مع السلطة السياسية تعيش وضعية قلقة مؤرقة، لا تسمح لها بتحديد أولوياتها وخياراتها. فهي من ناحية تعاني من التبعية شبه المطلقة للأجهزة الأمنية وملحقاتها، ونعني بهذه الأخيرة الجمعيات والنقابات التي أوجدها النظام لتكون أداة للضبط والتوجيه، ولم تظهر نتيجة إرادة القوى الاجتماعية التي من المفروض أنها قد ارتأت أن تكون بمثابة مؤسسات مهنية تمثل مصالح أعضائها، وتدافع عنها. والتبعية هذه لا تقتصر على الإجراءات الإدارية والقرارات السياسية وحدها، بل تشمل كل قيود الاستنزاف التي تنهك المبادرات، وتقتل الإبداعات في الميدان الاقتصادي، وتدفع بالجميع نحو الاحتماءquot;بسلامةquot; الانكفاء والانتظار.


ومن ناحية أخرى، لا ترى القوى الاجتماعية - الاقتصادية المذكورة في الفصائل السياسية الموجودة على الساحة البديل القادر على الإنقاذ، وذلك سواء من جهة القوة والتنظيم، أم جرأة الطرح، أم الكاريزما الشخصية. فالفصائل المعنية لا تمتلك القدرة على تحريك الشارع، وذلك للضعف التنظيمي المادي الذي تعاني منه على مستويي الكم والكيف؛ وهو ضعف لم يعد من الممكن التغطية عليه بعد سلسلة الاعتصامات والاجتماعات التي أقدمت عليها المعارضة في دمشق خلال مناسبات عدة؛ وهي اعتصامات مطلوبة ومشروعة، لكنها لا ترتقي إلى مستوى التحدي، الأمر الذي ينعكس سلباً على القوى الداعية إليها، والمشاركة فيها. خاصة من جهة اتساع الشرخ بينها وبين الشرائح الاجتماعية المختلفة التي من المفروض أنها صاحبة المصلحة الحقيقية في الجهد المعارض. وما يُلاحظ هنا أن مفارقة عقيمة بعض الشيء تتحكم في العلاقة بين الفعل المعارض وحامله الاجتماعي. فالأول ليس في مقدوره تجاوز ضعفه الذاتي من دون مساندة الثاني؛ في حين أن هذا الأخير لا يستطيع في ظل اختلال الموازين أن يعوّل على من لم يثبت بعد الأهلية الفعلية والنظرية في ميدان القدرة على المزاحمة الندّية للقائم غير المرغوب. ولعل ما نعنيه بالأهلية الفعلية واضح لا يستوقف، أما ما يخص الأهلية النظرية، فهي تتمظهر في عدم القدرة على التحرر من المنظومة التي كرّسها حزب البعث؛ وهي منظومة لاتاريخية، لا تعترف بالواقع الملموس، بل تحاول فرض ما في الأذهان على المعاش في الأعيان.كما انها منظومة سكونية لا تستطيع التفاعل مع ديناميكية المتغيرات والمستجدات التي أعادت صياغة المعادلات الإقليمية، بل أضافت إليها أبعاداً جديدة تتجسد في التفاعل ما بين الإقليمي والمحلي من ناحية، وبين هذا وذاك والدولي من ناحية ثانية؛ الأمر الذي يلزم بضرورة قراءة الأحداث بصورة صحيحة في الوقت المناسب، وذلك من أجل استشفاف ملامح المستقبل. أما أن نصر على الانزواء، ونلح على أن أدواتنا وتكتيكاتنا الماضوية ما زالت صالحة على الرغم من كل الإخفاقات؛ فهذا مؤداه التحوّل إلى جزء عضوي صميمي من الوضعية المأزومة ذاتها. وما يترتب على ذلك هو فقدان الأمل بقدرة الأطر القائمة على تفعيل الوضعية الراكدة، ودفعها نحو حراك يتجاوز حدود امتصاص النقمة، ويصادر على الجهود التزيينيّة التي يوظفّها النظام بين الحين والآخر.


إن النظام الشمولي الحاكم في سورية يهيمن اليوم على العمال والفلاحين والموطفين عبر الاتحادات والنقابات والجمعيات التابعة له بصورة شبه كلية، إن لم نقل مطلقة؛ والشرائح المعنية هي التي تكوّن القوى الإنتاجية الأساسية في المجتمع السوري التي لها المصلحة المحورية في أي تغيير ديمقراطي قادم. ولا يمكن أن يتحقق أي تقدم في ميدان التغيير من دون الاستقطاب المنهجي المنظم لجهود القوى المعنية. كما إن مصير شرائح البرجوازية الصغيرة والمتوسطة- التي قد تعرضت لضربة كبيرة جرّاء التداخل ما بين الأمني والاقتصادي في سورية- يرتبط هو الآخر بالتغيير المنشود، إلا أنه في مواجهة غياب البديل الضامن يضطر الجميع إلى التكيّف السلبي مع الوضعية القائمة، والانتظار ريثما تنضج الظروف والشروط بصورة أفضل. وكل ذلك يلزم الفصائل المعارضة بضرورة إعادة النظر في خططها التنظيمية، وبرامج تحركاتها الداخلية. فهي تحتاج إلى القاعدة التنظيمية الجماهيرية العريضة. كما تحتاج إلى الطاقة الشبابية الحيوية، وذلك لتتمكن من تشكيل قوة جماهيرية مادية على الأرض، تكون فاعلة ومؤثرة في ميدان التحركات الشعبية، وقادرة على فرض حساباتها في سياق المعادلات الداخلية. أما أن تظل الاحتجاجات في نطاق مجموعة محدودة- مع تقديرنا لجهودها النبيلة- من المتقاعدين، مع مشاركة رمزية من المعارضة الكردية التي لم تتوطد الوشائج بينها وبين المعارضة العربية- شريكتها في الوطن والمصير- إلى المستوى المطلوب، وذلك لأسباب عدة، منها عدم قدرة هذه الأخيرة على تجاوز المنظومة المفهومية البعثية - كما أسلفنا- في ميدان التعامل مع الآخر المختلف. إن بقاء الاحتجاجات في نطاق محدود، يتقلص ويتضعضع بفعل الجهود الدولة الأمنية، فهذا مؤداه الإقرار بالعجز، وانتظار المجهول الحالك......

عبدا لباسط سيدا

لقراءة مقالات اخرى في ايلاف