وجهٌ أثري، يختزل تراث الأقدمين، يملك جسداً متهالكاً وكأنه قد بلغ من العمر عتيا، ولكنه كثير الحركة، يختفي فجأة ويظهر فجأة، بشوش والإبتسامة لا تفارقه إلا في حالات اليأس الشديد، كريم وخلوق وشهم، يمتلك قدرة فائقة في تقليد الأشخاص، ولكنه يدفن موهبته هذه خوفاً من أعين المخرجين والمنتجين، لأنه يحب العروض المجانية والحرة التي لا تقيّده بعقد أو اتفاق..

أجمل ما فيه أنه لا يعترف بالبدايات أو النهايات، أمسه يشبه يومه، ويومه يشبه غده، يعاني كثيراً من سيارته التي أكل عليها الدهر وشرب، كل يوم يدخلها العناية المركزة وكأنها نقلت إليه بعض الأمراض العصرية كالضغط وتوتر الاعصاب..

يستحق بجدارة أن ينال جائزة نوبل للسلام، لأننا نراه دائماً يأخذ على عاتقه مهمات المصالحة وفض الاشتباكات، وإخماد الحرائق البشرية التي تنشب بين هذا وذاك، وهنا وهناك..

له صداقات وعلاقات كثيرة متنوعة، يحب الجميع ولا يفرق بين كبير أو صغير، وبين فقير أو غني، وبين مسؤول أو موظف هالك، نراه دائم الجلوس مع الشريحة الكادحة، يناقشهم في أمورهم الحياتية، ويتفقدونه دائماً إذا غاب عنهم بعض الوقت، فاستحق بحق لقب ( البروليتاري ) العتيد، وله علاقات عميقة ومتجذرة مع الجالية المصرية على وجه الخصوص، ولكن لا نعرف بالضبط حجم المصالح المشتركة بينهما..

صاحب فكاهة، روحه دائماً مرحة، والنكتة حاضرة على لسانه يقولها هنا وينشرها هناك، واستطاع بعد صبر طويل ومخاض عسير أن يقتنص منزلا خاصاً به، كان سبباً مباشراً في وقت سابق لمعاناته اليومية مع البنوك والمؤسسات المالية، وبتشدينه هذه المرحلة المفصلية الحاسمة من حياته بدأت أحلامه تتحقق شيئاً فشيئاً، وبدأت أمور حياته التي كانت تملؤها الفوضى العارمة تستقيم وتترتب، وكأنه قد وضع حجر الأساس لمستقبله المشرق..

لا نراه في العمل إلا نادراً، يأتينا في الصباح ويغادرنا على الفور متوجهاً لانجاز المهام الرسمية التي توكل إليه، وما كان مني إلا أن رشحته لمنصب سفير فوق العادة..

يتكلم الانجليزية جيداً، لأنه عاش فترة من حياته في الولايات المتحدة الأمريكية، كان قد ذهبَ إليها لاجئاً عاطفياً كما أشيع عنه، وهذه الفترة من حياته بالذات لا يفصح عنها ابداً، وكأنها إحدى الملفات السرية لدى وكالة المخابرات المركزية الامريكية، ونعتقد أن تلك الفترة من حياته قد أصابته بمرض النسيان المزمن، فهو كثير النسيان إلى حد اللاوجود، يقرر أنه يريد المجيء الى العمل وفجأة ينسى أنه قرر ذلك، ويقرر أنه يريد أخذ اجازة دورية وينسى أنه قرر ذلك، ويقرر أنه يريد أن يأكل وينسى ذلك سريعاً، وهكذا عجلة النسيان تدور في حياته مسببةً له الكثير من المتاهات والاشكالات والمواقف المحرجة، فضلاً عن ذلك فأنه كثيراً ما يسرح، سادراً في أحلامه المستحيلة إلى درجة أنه لا يشعر بوجوده بيننا، وبرغم ما يتمتع به من فكاهةٍ وروح مرحة إلا إنكَ تستطيع ببساطة أن تقرأ علامات الحزن في وجهه وقد حفرت أخاديدَ لاتمحى، ونعتقد بأن السبب في ذلك يعود إلى بعض الاخفاقات المتكررة في حياته الخاصة والعامة، وعادةً ما يفصح عنها للأشخاص الذين يبادلونه همومهم وأتراحهم..

لايهتم كثيراً لهندامه مؤمناً بنظرية ( الرجل لايُعاب )، ولكنه في الوقت نفسه يحب البخور والأطياب كثيراً، الرخيصة منها والغالية، يتعطر بها في الصباح الباكر، بعدها ينجز أول مهمة رسمية له في العمل بشرب الشاي، إذا لم يكن قد نسي، بعدها يتـوج يومه بسيجارة ويدخنها بشراهة واضعاً يده على جبهته، بعد أن يفرغ من السيجارة يذهبُ مسرعاً يتفقد ممرات الإدارة، لا نراه ولكن يتخيل لنا ذلك، بعدها يدخل علينا فجأة، يسحب ورقةً صغيرة ويسجل عليها طلبات الفطور اليومية، فهو المتعهد الرسمي لوجبات الافطار، وحينما يكون في اجازة ننقطع تماماً عن الاتصال بالعالم الخارجي..

تلفونه النقال لا يتوقف عن الرنين، فالكل يسعى في طلبه، لا يحبذ استخدام المحارم الورقية، مفضلاً عليها منديلاً قطنياً يحتفظ به في درج مكتبه على الدوام، يطرب لسماع الأغاني الإيرانية تحديداً لأنه يراها تتفق مع طبيعته النفسية أو ربما تكوينه العاطفي، وكما هو معروف عنه ليس له أية هوايات تذكر، ربما لأنه لا يملك الوقت الكافي، وربما لا يرى في الهوايات المتعددة أمراً مسلياً، وربما لأنه كان يعاني من طفولة معذبة بعض الشيء، ولكنه يحترف مهنة جميلة يراها الأنسب لميوله النفسية، وهي تربية الطيور والعصافير، فهو خبير فيها، يستأنس بها ويحاكيها ويفشي لها ببعض أسراره وهمومه، ويحزن كثيراً على فقدان أي طير أو عصفور، هذا ما يظهره لنا ( أحمد ) الجميل وما خفي منه يحتفظ به لنفسه فقط..


محمود كرم
كاتب كويتي
[email protected]

لقراءة مقالات اخرى في ايلاف