هذه الورقة غايتها التاكيد، بان تنفيذ المادة 140 من الدستور العراقي هو الطريق الامثل لحل مسالة كركوك، ليس من منطلق كون هذه المادة، اختيارا كرديا ترفضه الاطراف المتنازعة على مصير المحافظة، فالاختيار الامثل بالنسبة للكرد هو الاقرار بكردستانية كركوك، ولكن الالتزام بالحل الدستوري متمثلا بالمادة ( 140 ) يشكل نقطة الاحتكام بين الكرد والاطراف الاخرى.


والدعوة للعودة الي الحل الدستوري ليست quot;تزمتا كردياquot; رغم ان صاحب هذه الورقة يعبر بالضرورة عن وجهة النظر الكردية مع تفهمه لوجهات النظر الاخرى، من حيث المبدأ على اقل تقدير. و خاصة لجهة ان من حق الاخرين ان تكون لهم قراءة مختلفة لماضي و مستقبل المدينة، تؤثر في موقفهم من حاضرها. ولكن المسار الدستوري جاء اصلا، لكي يشق طريقا للحل بين الرؤى والمصالح المتناقضة لاطراف النزاع.
اما الداعون الى تعطيل او تأجيل او تحوير هذا الحل الدستوري فسوف لن يحققوا شيئأ سوى العودة بالمشكلة الى المربع الاول من حيث التعاطي مع الحل.


لنتوقف عند نقاط توضيحية حول المادة نفسها
1 ـ المادة ( 140 ) بوصفها نتاج تقاطع ارادات القوى المتنازعة:
كما تعلمون فأن المادة ( 140 ) هي امتداد للمادة (58 ) من قانون ادارة الدولة العراقية المؤقت، الذي وقع في (8/3/2004) من قبل اعضاء مجلس الحكم. (وهي مادة مرهونة بزمن معين) فلو عدنا الى الوراء قليلا لتقصي الاجواء التي قادت الى بلورة المادة (58 ) وادراجها في الدستور المؤقت للعراق فسنلاحظ بوضوح ان الكرد في تلك المرحلة لم يمتلكوا من القوة ما يكفي لفرض ارادتهم السياسية على الاطراف العراقية الاخرى، ولا تلك الاطراف امتلكت من القوة ما يجعلها قادرة على تعطيل المطالب التاريخية للكرد حول كركوك،وبالتالي يبدو وكأن الزمن قد توقف عند اللحظة التي أنتهى فيه سياسات التطهير العرقي غداة سقوط النظام السابق، دون ان يعقب هذا السقوط تصحيح لما ترتب على تلك السياسات من نتائج باطلة لا تقبلها العدالة ولا الوطنية العراقية.


ويصح الامر كذلك فيها يتعلق بالارادة الاقليمية و الدولية مقارنة بارادة العراقيين المختلفين حول مصير المدينة. فالارادة الاقليمية والدولية كانتا منشعلتين باولويات اخرى في الشأن العراقي، كانت كركوك جزءا صغيرا منها و لم تضغط باتجاه محاباة طرف من اطراف النزاع على كركوك على حساب الاطراف الاخرى.


اذن نحن امام مادة دستورية مرهونة بزمن معين quot; تقاطع الارادات التي لم تستطع تلين بعضها البعضquot; و تنفيذها مرهون بجدول زمني كأحكام أنتقالية، بخلاف المواد الاخرى الواردة في الدستور، و القابلة للتنفيذ في زمن اطول، وبالتالي فأن اي تعديل قد يطرأ على المواد الاخرى، فسيكون تعديلا لفترات اطول ايضا(على العكس من المادة 140.


2 ـ أذن لماذا يتشبث الكرد بمادة هي ليست خيارهم الامثل؟ الجواب هو ان طريقا يحدد جدولا زمنيا لحل المشكلة افضل، من قناعات تنطلق من التاريخ والحق والعدالة وهي اعمدة اخلاقية في السياسة بشكل عام، ربما لا يرضى بها الاخرون.اما الجانب الآخر من المسالة فهو، ان الكرد واثقون من ان تصحيح سياسات التطهير العرقي، المنصوص عليها في فقرات التطبيع ضمن المادة (140)، سيؤدي في نهاية المطاف الى اعادة تضاريس المدينة وديموغرافيتها الى العهد الذي كانت عليه قبل بدأ عمليات التغيير القسري. مايؤدي بالتالي الى حسم النزاع لصالح الخيار الكردستاني. ويبدو أن الاطراف تعي هذا الامر أيضا

العامل السياسي والانساني في معضلة كركوك
يتداخل العامل السياسي مع العامل الانساني في معضلة كركوك، والمناقشات والسجالات الدائرة بشأن حلها الآن. وفي التأريخ القريب ظل هذان العاملان حاضرين في كل الترتيبات التي تم أتباعها بصدد كركوك.
1 ـ عملية التطهير العرقي في المحافظة جرت لاسباب سياسية: تنفيذا لسياسة التعريب والتطهير العرقي، فان الكرد والتركمان هجروا عن ديارهم قسرا، لاسباب سياسية،كما وجاء الوافدون الى المنطقة لأسباب سياسية أيضا. بمعنى ان كل سياسات التغيير الديموغرافي نفذت بأستخدام العنصر البشري.
2 ـ عودة المرحلين هي مسالة سياسية و انسانية في عين الوقت. فهي سياسية من حيث تحقيق التطبيع الذي يسعى الكرد من خلاله الى كسب معركة الاستفتاء.


وهي أنسانية لأن هؤلاء، رحلوا عن ديارهم قسرا، مع الاخذ بعين الاعتبار كل ما يرافق عمليات الترحيل القسري من مآس وويلات.لاسيما وان تحقيق العدالة يتطلب أنصافهم وتوفير سبل عودتهم.
3 ـ مسالة اعادة الوافدين هي مسألة سياسية ايضا. لأن الغاية من طرح مطلب اعادتهم هي تكملة مرحلة التطبيع كي يتحدد بموجبه، الذين يحق لهم التصويت،مثلما ان مطلب أبقاء الوافدين، وبعضا من الضجة ( وليست كلها ) حول لاأنسانية أعادتهم، هو مطلب سياسي أيضا، الغاية منه، هي عرقلة التطبيع وبالتالي إبقاء الوافدين كورقة في معركة الاستفتاء، بمعنى أستخدامهم لاغراض سياسية و لكن بذرائع وحجج انسانية، مع أن تكرار سياسات الترحيل القسري في العراق اليوم بهدف خلق كانتونات مذهبية صرفة، مؤشر على أن العراقيين ليسوا جادين بما فيه الكفاية في رفض مايترتب على التوطين والترحيل واعادة التوطين من حالات أنسانية مفجعة. وأذا كان هناك من معركة سياسية بأسم الاسباب الانسانية، فلدى الكرد ملفات كثيرة حول اربعين عاما من الترحيل ولدى العرب من الشيعة والسنة ملفاتهم حول التهجير القسري ايضا ويتعين على العراقيين بعد حين أن يجدوا الحل لكل هذه المشاكل على دفعات.

مغزى دعاوى التأجيل
يجب ان نقر عراقيا بأن الخلاف حول مسالة كركوك هو جزء من الخلاف العام على المكتسبات: على السلطة و الارض و الثروة ويمكن ايجاد توليفة من الحل لهذه المشاكل. والاختلاف بحد ذاته حول هذه المسألة ليس مثلبة ولكن الخطأ هو في تجاهل هذه المشاكل أو الالتفاف حولها أو تميعها بدعوة حساسية المرحلة الانتقالية. فكل الشعوب والاوطان ذات المصائر المشتركة عانت من مشاكل المرحلة الانتقالية من الانظمة القمعية الى العقد السياسي الجديد. والعمل على ترك البصمة على الشكل الجديد للوطن ونظامه السياسي هو ديدن كل التجمعات المكونة لاي كيان سياسي. ويمكن هنا أن نختلف فيما بيننا ونبقى عراقيين في الانتماء وفي الجغرافيا. وفي حين أن الوطنية العراقية يجب ان تكون حاضرة وحية في مسيرة ايجاد الحلول، الا ان الوطنية العراقية مفهوم جامع و له معان عظيمة ليس من بينها قبول الظلم الذي سبق والذي يلي. وهي حاضنة للعراقيين جميعا لايحق لكل متهرب من التزاماته الدستورية ان يلوذ بها. بل الاولى أن يلوذ بها العراقي الذي عانى من التهميش والظلم ومن بينه ظلم التطهير العرقي. وقطعا لايمكن معالجة خطأ التعريب بخطأ اخر مثلما لايمكن مكافاءة السياسات الخاطئة او تحميل المتضرر وزر البطأ في تنفيذ الحل الدستوري. بل الاولى تعويضه عما لحق به من أضرار.


وفي رأينا فأن دعاوى التأجيل للمادة 140 أو أجهاضه أو تحويره يأتي بسبب:
1 ـ أما ان الحل الدستوري حل مفضل و لكن حجة الدعوة الى التأجيل هي أن الظرف السياسي غير مؤات له وهو نفس الحجة التي جعلت سياسات التنمية والتطوير في العراق وكامل الحياة السياسية فيه، رهينة بالدساتير المؤقتة وأنظمة الطوارىء. وهي نفس الحجة التي سيقت لمنع تحقيق أدنى تقدم في حل كركوك في عهد وزارتي الدكتور علاوي و الدكتور الجعفري
2 ـ أو ان الحل الدستوري مرفوض ضمنا و لكن الاطراف الرافضة له تمتنع عن الافصاح عن ذلك بوضوح حتى لاتتهم بمخالفة الحل الدستوري. والبعض من هؤلاء يطرحون أقليم كركوك بديلا عن خارطة الطريق. وبالطبع يحتاج هؤلاء أن يقدموا برهانا حول حبهم لصيغة الاقليم في حين يرفضون فكرة الاقاليم على المستوى العراقي و يتخوفون من فكرة الفدرالية العراقية.
3 ـ أو ان الغرض من التأجيل هو العودة الى المربع الاول أو ربما الحنين الى زمن الظلم، يوم لم يكن يحسب لارادة الاخرين من اطراف القضية أي حساب. وفي السياسة يمكن تفهم صراع الارادات و دور القوة في الحل، و لكن ليس الى درجة سحق الحقوق و البعد الاخلاقي في التعاطي مع المشاكل. وأصحاب النية في التأجيل من أجل الانقضاض على المادة140 يعولون على تغيير موازين القوى وكسر الارادات التي التقت في لحظة صفاء دستورية حول خارطة الطريق الكركوكية.


العامل الاقليمي والدولي
و رغم اننا مع مراعات العامل الاقليمي والدولي، و حيث لايمكن لأي دولة في العالم اليوم، ان تبقى بمعزل عن التأثيرات الخارجية، الا ان الالتجاء الى الجرعة الزائدة لهذا العامل يعني ان السياسة في العراق مازالت مرهونة بالعامل الاقليمي والدولي أكثر مما هي مرهونة بالعامل الذاتي.، مايفضي بالنتيجة الى استقواء الجميع بالعامل الخارجي. فأذا كان هناك قبول لضغوط اقليمية او دولية فلماذا لاندعوها لطاولة الحل او نذهب اليها كسبا للوقت والجهد؟!.


وأذا كان العامل الدولي حاضرا بكل هذه القوة في مسألة كركوك في ظل دعوات البعض الى نقل ملف كركوك الى الامم المتحدة، فلماذا اذن لاننقل الملف الكردي وكامل الملف العراقي الى الامم المتحدة لنعود الى المربع الاصلي او المربع قبل الاولي وكفى الله المؤمنين شر القتال؟!


لاشك في ان مساهمة الامم المتحدة في تنشيط الحل الدستوري لكركوك وللقضايا الدستورية المختلف عليها في الدستور، تختلف من حيث المغزى ومن حيث حجم الدور عن عملية تسليم الملفات كاملة الى الامم المتحدة او جعلها رهينة بيد العامل الدولي دون ادنى مراعاة للقرار العراقي.

حلول مرافقة للحل الدستوري
أن العراقيين أولى بحل مشاكلهم وتأتي مساعدة الاصدقاء والمهتمين بالشأن العراقي كعوامل مساعدة لتنشيط الحل ولتقديم المشورة ومايجمع العراقيين أكبر بكثير مما يفرقهم. ومايجمع المجتمع المحلي في كركوك بكرده وعربه وتركمانه وكلدواشوريه أكبر وأوسع مما يفرقهم. وتشبيه طبيعة الصراع في هذه المدينة ببرميل الباروت هو وصفة غير موفقة وغير معبرة عن طبيعة الوشائج الاجتماعية و الثقافية التي تربط مكونات كركوك. ويفترض في الحل الدستوري العراقي أن يترافق مع أجراءات بناء ثقة وحلول تتزامن مع خارطة الطريق الاصلية. فليس شرطا أن يكون الحل أما برفض المادة الدستورية أو التفرد بها دون معالجات مرافقة لاحتواء مايترتب على كل تطبيق لكل نص دستوري على حالة المجتمعات.


وهنا أود الاشارة الى أن الادبيات السياسية في العراق سواء الادبيات السياسية الكردستانية أو أدبيات القوى السياسية العراقية بحاجة الى الاغناء والتطوير بحيث تستوعب المستجدات في الحالة العراقية الجديدة ومنها حالة كركوك. ويشمل هذا التشخيص الدستور العراقي ومشروع دستور أقليم كردستان العراق. فالاولى بحاجة الى أن يتجه تعديلاته نحو التوسع في قاعدة حقوق الافراد والجماعات وليس تضيقه. والثاني يحتاج قبل أقراره من قبل شعب كردستان العراق الى أثراءه بحيث يتضمن حلول ومعالجات سياسية وأدارية للتنوع القومي والثقافي في كردستان، ويتضمن معالجات واضحة وصريحة تحفظ لكركوك خصوصيته القومية والمذهبية. فالنص الحالي لمشروع الدستور لايتضمن أغراءات كافية تدفع مكونات كركوك نحو التكامل مع أقليم كردستان.

وبتصوري المتواضع فالى جانب ضرورة الشروع في خطوات الحل الدستوري فنحن بحاجة الى أغناء النقاش وأيجاد طرق مساعدة للحل الرئيسي بدلا من الاجهاض على خارطة الطريق الوحيدة المتمثلة بالمادة 140.نحن بحاجة الى صفقة تأريخية لقيادات عراقية جريئة تدرك أهمية المستويات المتعددة للهوية العراقية. صفقة وطنية تحفظ للكورد مطلبهم التأريخي في كركوك ويحفظ للمجتمع الكركوكي تنوعه الثر بأجراءات صارمة واضحة المعالم، ويحفظ للعراق وحدته الوطنية. بدلا من أخذ كركوك رهينة بحجة منع تقسيم العراق بينما بقاء القضية بدون حل والالتفاف عليها هو الطريق المهلك للتقسيم.


فأذن الحل هو في تنشيط الحل الدستوري وتطعيمه بحلول مركبة ومبتكلرة وصولا لصفقة تأريخية أتمنى شخصيا ان تكون عنوانها كركوك مدينة للتعايش والتنوع، جزء من أقليم كردستاني جزء من عراق منسجم مع محيطه العربي والاسلامي ويقدم للعالم نموذج أخر لحل النزاعات حول عائدية المدن والاقاليم ضمن الاطار الوطني الاوسع.

ستران عبدالله