ها هو الدم الكردي يُستباح مجدداً من قبل عملاء النظام السوري وأعوانه وحلفائه، هؤلاء الذين استهدفوا هذه المرة أتباع الديانة الأزدية (اليزيدية) الكريمة في منطقة شنڴال (سنجار) كردستان العراق الذين ما زالوا يعتزون بالعقائد الدينية الكردية القديمة، ومن حقهم- كما انه من حق غيرهم من أتباع الأديان والطوائف الأخرى- أن يتنعّموا بحرية العقيدة والعبادة بكل احترام وتقدير. إنها ليست المرة الأولى التي يتعرض فيها أتباع هذه الديانة - ظلماً وعدواناً- لأعمال القتل والتهديد والمضايقة؛ ولكن من الملاحظ أن الحقد الذي انصب عليهم في هذه الجولة من جولات الحقد الجبان والغدر الأسود، كان نوعياً، وذلك من جهة الشراسة واللؤم، الأمر الذي يكشف النقاب عن حجم مشاعر البغض والكراهية التي يكنها الأعداء لشعبنا، هؤلاء الذين يتسترون زيفاً بعباءة الإسلام وتعاليمه السمحاء، ويعملون من دون توقف سراً وعلانية من اجل إلحاق الأذى بالكرد، وذلك باغتيال كوادرهم، وإحداث الفتن بينهم عبر اللعب على أوتار التعصب الديني والطائفي؛ الأمر الذي لم ولن يستسيغه هذا الشعب الأبي الذي عُرف على الدوام بالتسامح، واحترام أتباع جميع الديانات؛ سواء تلك التي تخصه، أو تخص الشعوب الأخرى المتعايشة والمجاورة والصديقة، وحتى الغريبة البعيدة. فالدين في منظور الكردي هي علاقة بين الإنسان وربه، وهي علاقة مقدسة بطبيعتها، كونها تربط بين مستويين من الوجود، الأول محدود، قاصر، زائل. بينما الثاني، لانهائي، كامل، خالد. والقداسة هذه تظهر بتجليات عدة، وتحت أسماء متباينة، تجسدها الأديان المختلفة. أما الحكم على مصداقية هذا الدين أو ذاك، و مكافأة أو محاسبة هذا الفريق أو ذاك من أتباع سائر الديانات، فهذه أمور متروكة للرب السامي وحده، الذي لا يجوز لأي كان ادعاء الزعم في مشاركته قراراته وأفعاله، وقتل الناس الأبرياء باسمه.
وانسجاماً مع هذا التوجه الكردي الأصيل، لم يشهد المجتمع الكردي نزعة التطرف الديني، ولم يتسم بالاستقطاب المذهبي أو الطائفي؛ بل كان الانتماء القومي بالنسبة إليه هو المحور الأساس الذي تستمد منه كل الانتماءات الأخرى المغزى والتوجه. ومع أن التاريخ الكردي سواء البعيد منه أم القريب قد شهد حالات متعارضة مع هذا التوجه العام، إلا أنها عجزت عن الاستمرار والهيمنة، لأنها كانت حالات مستهجنة، لم يستسغها شعبنا، بل واجهها بالمقت والرفض، وذلك لتيقنه من النوايا الشريرة لمدبريها من المتسلطين، هؤلاء الذين كان هاجسهم الأوحد هو تمزيق أوصال المجتمع الكردي، ليظل فريسة طيّعة تعجز عن المقاومة.
إن الجريمة كبيرة وفق جميع المقاييس؛ وذلك من ناحية عدد الشهداء الذين سقطوا، أو الجرحى الذين ما زالوا يعانون الآلام والصدمات النفسية؛ أو من جهة الخراب والأحزان التي ترتبت عليها. ولكن في مطلق الأحوال لا يمتلك الكردي حق الخنوع أو الاستسلام أمام هول وإيلامية هذه الجريمة وغيرها من التي قد ارتكبت، أو ربما ترتكب في المستقبل؛ لأنها موجهة أصلاً لكسر إرادة التوق إلى الحياة الكريمة لدى الكرد، وهي تؤكد مدى الحقد الدفين الذين يكّنه الأعداء لشعبنا، وتلقي الضوء على وحشيتهم العمياء التي لا تتحّمل النجاحات الكردية في كردستان العراق؛ وتعمل بشراسة من أجل الفتك بالكرد جميعاً على اختلاف توجهاتهم السياسية ولهجاتهم، وانتماءاتهم الدينية والطائفية.
إن الرد الناجع على هذه الجريمة النكراء يقتضي اتخاذ جملة من التدابير الاحترازية التي من شأنها معالجة الأخطاء، وسد الثغرات التي قد تمكّن المتربصين مستقبلاً من ارتكاب جرائم أخرى مماثلة؛ وأمر من هذا القبيل، يستوجب اعتماد حزمة من الخطوات العملية، تكون عناصر فاعلة في إطار خطة متكاملة. خطوات تشمل القرارات السياسية والجهود الأمنية، والميادين التنموية والتربوية والتعليمية والاعلامية والحقوقية وغيرها..، وقطع الطريق أمام رواد الفساد ومروجيه والمنتفعين منه، هؤلاء الذين هم بمثابة النخر السرطاني الذي سيلتهم كل شيء ما لم يتم استئصاله ومعالجته في الوقت المناسب.
فالقرارات السياسية ينبغي أن تتمحور حول الهم الكردي العام في جميع المناطق الكردية، سواء أكانت داخلة حالياً ضمن دائرة حدود إقليم كردستان، أو تنتظر الدخول. كما أن الجهود الأمنية ينبغي أن توفر الأمن لجميع الكرد من دون استثناء، بصرف النظر عن الدين والمذهب والتوجه السياسي. ومن جهة أخرى، ينبغي ألاّ تقتصر المشاريع التنموية الفعلية على منطقة من دون المناطق الكردية الأخرى؛ هذا في حين أن الوضعية الكردية الراهنة تقتضي الاهتمام بقيم التسامح الديني، وتمكين الجيل الجديد من الاطلاع العلمي على تاريخ مختلف الأديان والطوائف وتعاليمها واحترامها، وذلك في سياق العملية التربوية التعليمية؛ وهذه مسألة من الأولويات التي لا يجوز إهمالها أو التقاعس بشأنها، خاصة في ظل أجواء الحملة التسعيرية التي يخضع لها الكرد، هذه الحملة التي تروج لها أجهزة إعلام التعصب القومي، وجماعات الإرهاب التي تسعى باستمرار من أجل استغلال الحوادث الفردية، لتسوّقها أحكاماً عامة، تستخدمها لإثارة الأحاسيس اللاعقلانية، بغية دفع أصحابها نحو التعميم؛ الأمر الذي يزيد من حدة التشنج، ويمهد الأجواء لافتعال الفتن التي ترمي إلى تفكيك المجتمع الكردي من الداخل. وفي هذا المجال لابد لأجهزة الإعلام الكردية والمؤسسات الحقوقية والأكاديمية أن تقوم بمهامها بصورة أكثر جدية وفاعلية، وذلك سواء من جهة نشر ثقافة الاحترام والتفاهم والإقرار بالحقوق والواجبات لكل المواطنين الكردستانيين على اختلاف انتماءاتهم؛ أو من ناحية إلقاء الضوء على الإساءات والتصرفات الخاطئة، ومحاسبة أصحابها وفق الأصول الحقوقية التي تنص عليها القوانين.
إن المرحلة المصيرية التي يمر بها الكرد، تلزمهم بالضغط على الآلام، وتضميد الجراح، وإعداد العدة لمواجهة المزيد من التحديات الكبرى في المستقبل. وبهذه المناسبة لابد من الإشادة بمواقف الإدانة التي حمل أصحابها على جماعات التفجير الإرهابية وأسيادها؛ تلك المواقف التي جاءت من طرف الكرد وعلى كل المستويات. كما عبرت عنها مختلف الدول والهيئات والمنظمات الدولية؛ ولعله من الأمور اللافتة الباعثة على الاطمئنان والاحترام في هذا المجال، هو ما تجسد في تلك الكتابات التي صاغها العديد من المثقفين العرب، في سياق ردهم على الجريمة النكراء، وإدانتهم لها.
يقي أن نقول: إن العمل الإرهابي قذر بأهدافه وأساليبه، والرد عليه لابد أن يكون حازماً، جريئاً، يكشف النقاب عن مرتكبيه، ويعلن عنهم أمام الملأ بشفافية تامة؛ ويتخذ كل الإجراءات الرادعة والوقائية من أجل الحيلولة دون تمكّن الإرهابيين من بلوغ مآربهم الوضيعة الشريرة بطبيعتها.