من النصائح الأميركية التي عمل بها الرئيس علي عبدالله صالح بعد الهجوم على المدمرة كول نصيحة بإنشاء جهاز آخر بديل لجهاز الأمن السياسي بحجة أن جهاز الأمن السياسي مخترق من التنظيمات الإرهابية، ولا أمل من تنظيفه، ولهذا جاء إنشاء جهاز الأمن القومي مع الإبقاء على جهاز الأمن السياسي خوفا من أن يتحول ضباط الأمن السياسي إلى متقاعدين يتظاهرون للمطالبة بحقوقهم.
وعندما استشعر غالب مطهر القمش رئيس جهاز الأمن السياسي بالخطر من إنشاء الجهاز الرديف عرض على الرئيس الاستقالة قائلا له إنه بحاجة للراحة والسفر للخارج للعلاج، لكن الرئيس رفض الطلب مطمئنا غالب القمش بالقول: quot; لقد بدأنا سوا ولن نخرج إلا سوا....quot;
ومن المعروف عن الرئيس وفائه للمخلصين له وعدم تخليه عنهم، وعلى رأس هؤلاء غالب القمش، العسكري المرن، الذي وصفه أحدهم يوما ما بالقول إنه quot;أنظف رجل ويرأس أقذر جهازquot;. وبالمقارنة بين جهاز سلفه الراحل محمد خميس وجهاز غالب القمش فإن سمعة القمش كانت على الدوام أكثر نقاء، وأقل انتهاكا لحقوق الإنسان من سلفه، ولكن مع ذلك ظل الجهاز مصدرا للرعب والذعر لدى المواطنين.
وعند إنشاء الأمن القومي جرى إنتقاء نخبة مختارة ممن تعتقد السلطة أنهم أفضل ضباط الأمن السياسي ليكونوا نواة الجهاز الجديد بعد تطعيمهم بعدد ممن quot; لا يؤدون الصلاة quot; ولا يشتبه بأنهم متعاطفين مع الإسلاميين، إضافة لأعداد من أولاد المسؤولين الصغار، وعلى رأسهم وكيل الجهاز عمار محمد عبدالله صالح الذي استحوذ على إعجاب الرئيس بسبب quot; سماختهquot; وquot; نباهتهquot;. وبسبب صغر سن الوكيل عمار، فقد تم اختيار الأفندم علي الآنسي لرئاسة الجهاز من أجل الأخذ بيد عمار وتدريبه، والإشراف المباشر على سير العمل بما لديه من خبرة ودراية بالبلاد والعباد.
وعندما جاء الخبراء الأميركيون بتقنياتهم للمساهمة في تأسيس الجهاز الجديد سرعان ما أصيبوا بالإحباط وعرفوا أن تعيين الآنسي على رأس الجهاز خطأ فادح لأن الرجل خبير في عرقلة القضايا وليس في تسييرها. كما أن الجمع بين إدارة مكتب رئاسة الجمهورية ورئاسة جهاز الأمن القومي لم يكن في صالح أمن البلاد، لأن الرجل أصبح كثير الإنشغال، كما بدأ يتحسس كثيرا من الدور المفترض للشاب عمار، ويعرب للمقربين منه، رغم حصافته، أن عمار يدعي في الخارج أنه نائبه وهو مجرد وكيل، كما يطلب من البعض تقارير صريحة عن سوء ممارسات عمار في الداخل والخارج وإساءته لسلطاته كي يعرض هذه التقارير على الرئيس.
ومثلما يحدث في أي مؤسسة حكومية يمنية لا بد أن يندلع صراع مكتوم بين الرجل الأول والثاني في المؤسسة وهذا ما بدأ يستشعره ضباط جهاز الأمن القومي الذين تتملكهم الحيرة وينتابهم الخوف من إظهار الولاء لعلي الآنسي خوفا من عمار أو إظهار الولاء لعمار بما قد يتسبب ذلك من خطر أن يحل عليهم غضب علي الآنسي.
وعلى عكس ما كان يريده الأميركيون من تفرغ الأمن القومي لمكافحة الإرهاب فإن الأمن القومي كثف جل جهوده في مراقبة ضباط الأمن السياسي، ومراقبة ناشطي المجتمع المدني ورجال الصحافة والمعارضة، وتقتضي توجيهات علي الآنسي الضمنية أن تكون مكافحة الإرهاب في المرتبة الثالثة، وهو الأمر الذي أحبط الأميركيين على ما يبدو وجعلهم يشعرون بالإستياء لأن أجهزتهم وتقنياتهم المقدمة على حساب دافعي الضريبة الأميركيين تستخدم في غير الغرض المخصص لها، وزاد الاستياء بعد أن تولى مواطنون يمنيون متجنسون بالجنسية الأميركية تقديم شكاوى إلى لجنة الاستخبارت في الكونغرس قائلين في شكاواهم إن المساعدات المقدمة من أموال دافعي الضريبة استخدمت لكبح جماح الحريات ومراقبة هواتف الصحفيين، وإهمال الإرهابيين.
ومن جانبهم يشعر ضباط الأمن السياسي بالإحباط بسبب تميز زملائهم في الأمن القومي بالرواتب الأعلى والتقنيات الأفضل، والسيارات النظيفة، ولكنهم يشعرون في الوقت ذاته أنهم الأقدر والأكثر خبرة في مكافحة الإرهاب واحتوائه، وأنهم استطاعوا أن يجندوا كثيرا من عناصر الإرهاب في صفوفهم وأصبحو يتبادلون معهم الزيارات وكأنهم أفراد في أسرة واحدة.
وبكل تأكيد مازال جهاز الأمن السياسي رغم الهروب الشهير هو صاحب الدور الأكثر تأثيرا في مطاردة الإرهابيين وترويضهم، ولكن أفراد الأمن القومي متفوقون في مظهرهم وحسن تعاملهم مع المسافرين عبر مطار صنعاء الدولي، ومن الأفضل تسليمهم أمن المطار لأنهم أفضل من يمثل أجهزة الأمن في بوابة اليمن الرئيسية، في حين أن مكافحة الإرهاب لا ينفع معها المظهر السليم، والأخلاق الرفيعة، وإنما القضاء المستقل والمحاكم الصارمة.
كاتب وسياسي يمني مقيم في واشنطن
[email protected]