أعرب محدثي عن دهشته، وخشيته، الكبيرتين مما أنا فيه من مأزق، وورطة عضال، وتخوّف جداً من المصير الأسود الساحق الماحق الذي يتهددني ويحيق بي لأنني لم أوافقه الرأي، وquot;تحفظتquot; ولم أجاره، بما تفعله النذور والأضاحي من شفاعة للإنسان عند ربه، وما لها من أهمية في دفع الشرور والأذى والبلاء عن كاهل الإنسان البائس الذي يدور في فراغ ومتاهة فكرية وفلسفية منذ بداية الخليقة. وأعربت له عن يأسي وتشاؤمي من عبثية تلك العملية عبر الأموال التي تذهب هدراً، وتلك الأدعية التي تؤول إلى فقاعات هواء ولا يتحقق منها شيئاً، وأنه عندما يفشل الإنسان في التكيف العقلاني والمنطقي مع الحياة، وتخونه الظروف والأقدار ومعطيات الواقع، يلجأ للغيب والأوهام، وينحو باتجاه الخرافات والخزعبلات علها تعيد له شيئاً من التوازن العجيب المفقود في هذه الحياة.
وفي البداية حياة الإنسان ستنتهي عاجلاً أم آجلاً، وعلى الغالب بطريقة مأساوية، وليس بالأفراح وعلى قول الشاعر:
وكل ابن أنثى وإن طالت سلامته***يوماً على آلة حدباء محمول
فالموت لا يحتمل الهزل والمزاح، ولا يمكن أن يزف الإنسان للموت كما يزف إلى عرس وليلة الدخلة بالطبل والزمر والعراضة الشامية وشخلعة الحسناوات. إذ لا بد له أن يقضي ويموت بحادث ما، أو مرضاً، وفقعاً وقهراً، وغيظاً، وكمداً لما يراه يومياً من فجور، وتهتك، وموبقات، وبفعل التقادم الزمني الطبيعي وانقضاء الآجال، ولو كانت تلك النذور تفعل فعلها في رد الموت، وتأبيد حياة الإنسان، وعدم وصوله لأرذل العمر، وإصابته بالشيخوخة والأمراض، لكان في المسألة نظر وإعادة حساب ولتجاوز سكان الكرة الأرضية آلاف المليارات الذي ذهبوا واختفوا وتحللوا وأصبحوا نسياً منسياً ورميماً وتراب، بما فيهم من تنوع وتضاد وملوك وأمراء ورعاع وعبيد وأسياد وكلاب.
فالنذور، وغيرها من الطقوس والمعتقدات، وبرغم رمزيتها الأسطورية الفاقعة وامتدادها الموغل في التاريخ البشري إلى ما قبل ظهور الديانات وتبلور فكرة الوحدانية والله في أذهان الناس، ما هي إلا محاولات يائسة، ونوع من المراوغة الهروبية وفلسفة غير ناجحة للحياة للالتفاف على لغز الموت، والتقرب من المجهول المخيف، ومقاومة عوامل الفناء، الذي يكتنفه الكثير من الغموض والإبهام والالتباس. والسؤال الأبرز، لماذا تنتقم الآلهة، التي من المفترض أن يكون من سماتها وصفاتها الأساسية الرأفة والرحمة واللين والرفق واللطف والإحسان، من الإنسان بهذه الطريقة الوحشية الشاملة، وغير الانتقائية، في الكوارث، والنوازل، والزلازل، والانهيارات، والفيضانات والحوادث المختلفة الأخرى؟ وهل لها ثارات كامنة ومزمنة مع تلك الجموع البشرية الهائلة التي تقضي في الحروب والتفجيرات والمجاعات، أوعلى أيدي السفاحين والفاتحين والقتلة والأباطرة المهووسين بجنون العظمة Megalomaniaوبسفك الدماء؟ ولماذا لا تميـّز في قصاصها وحكمها بين عرق، وإثنية أو أي دين من الأديان؟ وكم من المؤمنين البسطاء الدراويش، والصغار الطاهرين الأبرياء، الذين لا ذنب لهم، كانوا قد قضوا بطرق مأساوية ودموية يهتز لها القلب، ويرتعش لها الوجدان؟ ولماذا مات كبار المؤمنين والمؤمنات والخلفاء الراشدين والأنبياء، الذين يصلي لهم ويذكرهم الناس، صباح مساء، وليل نهار، غيلة وغدراً ومأساوية وبشكل دموي فظيع ولم تشفع لهم الأضاحي والنذور؟
ثم أليس نوعاً من الأنانية، والتمييز بين خلق الله، أن تشفع هذه النذور، هذا إذا شفعت أصلاً، لمن يملك ثمنها واستطاع إليها سبيلاً، ولا تأبه لمن لا يمللك شروى نقير ولا يستطيع أن يشتري ثمن دواء يشفيه من مرض ويقيه من آلام، ويسد به رمقه وجوفه الجوعان؟ هل في هذا من عدالة السماء في شيء؟ فلقد صرت أعتقد جازماً بأننا أنفسنا لسنا سوى مجرد أضاح ونذور لمحرقة كبرى لا أدري لماذا ومن المستفيد منها وما الغاية من استمرار هذا العذاب والتعتير الأبدي المقيم، وحياتنا مصير أسود وغامض، وسلسلة من النوائب والكوارث والنازلات الماحقات والحظ العاثر والقهر والقلة والحرمان منذ أن رأت أعيننا النور في هذه الرحاب الطاهرة، وأن الجحيم نفسه لن يكون أكثر سوءاً مما كابدناه، وعانيناه، ورأيناه حتى الآن، وهي بنذور، ومن غير نذور، تسير على نفس الشاكلة والمنوال.
ولو كانت النذور تغير وتطور في وضع الإنسان لكانت quot;أمتناquot; العربية والإسلامية ( مع التحفظ الشديد على هذا المصطلح الخلبي الكبير)، تنعم بالخير والرفاهية والديمقراطية والأمن والسلام أكثر من جميع دول العالم الأخرى، وهي التي تنحر سنوياً عشرات الملايين من النعاج المسكينة والخراف والثيران، وتزهق أرواحها، ومع ذلك فإنها لا ترقّ لحالها، ولا تشفع لها، ولا تبعث لها السعادة والطمأنينة والهدوء والاستقرار، ولا تشفيها مما هي فيه من جهل وأوبئة وانحطاط، ولا تنقذها من براثن الجهل والفقر والتخلف. بل يزيدها سبحانه وتعالى، وحمداً وشكراً له، ولغاية لا يعلمها إلا هو، قهراً، وذلاً، وشمولية، وفقراً، وتردٍ، وفاقة، وأمراضاً مستعصية وطغياناً واستبداد، ويتكرس يومياً فقرهاً وانحدراها المستمر نحو أدراك سفلى أكثر جهنمية وسوداوية وبؤس حال. وتتربع هذه الدول، وبكل شرف وتفوق، ولا ينازعها عليه أحد، على عرش القوائم السوداء في شتى مناحي الحياة. وينعم الله عليها بتلك الآفات البشرية الأسطورية المزمنة التي صارت رموزاً دولية لا يشق لها غبار في البغي، والظلم، والقمع، والنهب، والحلب، والاستغلال. وتنخفض يومياً لدى أصحاب الشفاعات معدلات الرفاه والازدهار وتوزيع الثروة والحياة، وترتفع فيها التهديدات والأخطار والحروب الطاحنة واحتمالات التقسيم والانشطار والإصابة بالزهايمر والفالج والسرطان وانفجارات الدماغ، وتتحكم بقوتها وخبز يومها حفنة من الشركات الاحتكارية والتروستات التي يزيد الله من ثروتها يومياً بالمليارات ويـُفقر الدراويش والمساكين أصحاب النذور الفقراء المسترزقين على الفتات والمعاشات الهزيلة. وأنه لو تم نحر جميع قطعان البقر والغنم والتيوس البرية الموجودة في براري مارلبورو الخلابة وبلاد اليهود والصليبين والعم سام، التي تنعم برفاهية مطلقة،quot; القطعان طبعاًquot; أكثر مما ينعم به المؤمنون والحمد لله، لن تغير في وضع إنساننا المنكوب، ولن تعيد له الفردوس المفقود والسعادة والهناء والفرح الموؤود الذي لم تره عيناه البتة في يوم من الأيام.
فإنساننا المنكوب، في طول العالم العربي والإسلامي وعرضه، يدعو يومياً ويصلي للاستسقاء، ولكنه لا يرى سوى الجفاف والقحط وتنقطع يومياً عنه المياه. ويتمنى أن يهديه، وينوّر الله له دربه فتنقطع الكهرباء. ويدعو بالطمأنية والصحة وطول الحياة فلا يرى سوى شتى التهديدات وينقصف عمره وهو في ريعان الشبان، ويـُجلد بالنزاهة والصدق والأمانة فلا يرى سوى الرشوة والنفاق والرياء، ويدعو بالنصر على الكفار والأعداء فلا يواجه سوى الهزائم والانكسارت، وبالغنى فيأتيه الفقر والإملاق، وبالسرور فيجد الكمد والغيظ والقهر والعذاب، ويتمنى أن يمشي على الصراط المستقيم فتواجهه المزالق الخطرة والطرق المليئة الحفر والمطبات، ويحلم بالوحدة فيبعث له الله جورج بوش ومشروع الشرق الأوسط الكبير، وبالحرية فيعاني الطغيان، وبالديمقراطية فلا يرى سوى القمع والاستبداد. فيهرش رأسه عجباً، ودهشة، ويلطم خديه خيبة، ويولول حسرة وألماً مستفسراً لِمَ لا تشفع لهم كل تلك البهائم، والنذور والقطعان؟
والعلم، طبعاً، عند الله.
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات