يشرح ميشيل فوكو في أعماله الرئيسية كيف أن كل نظام معرفي، ما هو إلا ممارسة سلطوية أو تعبير عن سلطة فهو تجاوز نقد ديكارت الذي يقوم على تعرية العلم القروسطي وتجريده من صفة العلم والمعرفة ليُخرج مارد (النقد) من أسوار المؤسسة العلمية والاجتماعية والتاريخية. وهي المغامرة النقدية الأشد ضراوةً وهي أحد أكثر المهام الفلسفية إثارة للنقاش منذ ضربة ديكارت الكبرى. وفي حوارٍ أقامه الفيلسوف الفرنسي جيل دلوز مع ميشيل فوكو يطرح فوكو السراديب العميقة لموضوع أعماله، ليصبح فوكو بربطه بين (الأنظمة المعرفية) وتكرير (الممارسات السلطوية) أبرز من حفر في المساحات المهجورة، ليضخ مصطلح (اللا مفكر فيه) من ضمن المصطلحات التي ستؤثر وبوضوح في الإنتاج الفلسفي الحديث.
في جزء من ذلك المجال التشريحي ينتقد فوكو دور (المثقف الشمولي) ويطرح أسئلة تمس الدور الذي يضطلع به المثقف، فهو لا يلغي المثقف ولكنه يتساءل بشكل تشريحي عن دوره ومدى خلو الممارسات التي يجْهد في تكريرها من النزعات السلطوية؛ ربما كان من أفضل من استثمر هذا النقد الفوكوي للمثقف الشمولي وقام بشرحه وتوسيعه من الكتاب العرب (علي حرب) في كتابه (نقد المثقف، أو أوهام النخبة) الذي أحدث فور صدوره ضجة كبيرة لم تهدأ، ذلك أنها-كتابة حرب- نقلتْ السؤال الذي طرح في فرنسا إلى العالم العربي مع ربطه بانهيار المشاريع العربية وتصدّع الأيديولوجيا النضالية.
يأتي الشرح في وقت يحتدم فيه الجدل حول فكرة (تبيئة المفاهيم)بين من يطالب بضخ كامل لكل ما يطرح من إنتاج فلسفي في العالم بوصفه نتاجاً إنسانياً، وبين من يطالب بوصل (المفهوم) بالثقافة العربية، وصل الأمر بـ (طه عبد الرحمن) أن طالب بوصل الكلمة بالجذر العربي وذلك في الجزء الأول من مشروعه الذي يهدف إلى التأصيل الجذري الاشتقاقي للكلمات الفلسفية المستوردة. كل ذلك النزاع ينبني على نزاع في كيفية الهروب نحو الحداثة بين تفسير كرونولوجي يجعل من الحداثة الأوربية نموذجاً لا يمكن للعرب احتذاءها إلا باقتفاء كافة الحقب التي مرت بها تلك الحداثة، وبين من يرى هذا التحقيب من لغو القول، كل ما مضى يدل على هزة عنيفة ما ذات صلة وثيقة باضطراب وعي المثقف بدوره!.
فالمثقف العربي مشتت جداً بشكل يثير الشفقة فهو يمارس الوعظ حيناً فيدبج الخطب والموازنات الصبيانية في ما يجب نقده وما لا يجوز نقده، فتراه يمارس الوصاية العمياء وكأنه مطوّف في مكة بيده العصا ينهى عن نقد أمر ويأمر بنقد آخر، وكأن زملاءه الكتاب والمثقفين مجرد قطيع عنده ، أولئك يشبههم أدونيس (بأئمة المساجد الذين ظلوا طريقهم إلى النقد)! وتارة يمارس السلطة حتى تخاله زعيماً سياسياً يعتب على من ينتقد جهة ما، ويثني على من ينتقد جهة أخرى، وتارة تجده ظل طريقه نحو النضال فيمارس (التطبيل) بدل (النقد)، خاصة وأن الكثير من الإنتاج الفكري اليومي الذي يطرح صحافةً وإعلاماً ليس سوى مباهج ذاتية، حتى وإن كان -المثقف الواعظ- يمارس الدعوة إلى عدم طلب الشهرة وراء الكتابة، أو ممارسة (تصفية الحسابات) وتلك موعظة سخيفة لا تدل إلا على عقم معرفي عريض.
فكل ممارسة نقدية هي بمعنىً ما ممارسة سلطوية، وأغلب المشاريع الثقافية لا يعيبها أن تكون (تصفية حسابات ذاتية) فالذاتية تحضر في المشاريع كلها، والكاتب ليس واعظاً زاهداً أو (فاعل خير) لا يطلب الشهرة! حسب ما يطرح بعض الوعاظ الذين أخطأوا الطريق نحو الكتابة. وإنما تحتم عليه المسألة الثقافية والنقدية أن يكون (اسماً) والذاتية تحضر بوضوح بين (الفلاسفة) فهم أحياناً quot;مثل الأطفال الذين يتعاركون على لعبةquot;-حسب كولن ولسون-. فهم يمارسون بشريتهم بسخاء وبذخ. منذ أن مدح نيتشه شبنهور وفاغنر لفترة ثم انقلب عليهما ذماً ونقداً بل وقدحاً.
فالفيلسوف أحياناً-كما يرى علي حرب- (كاتب فضائح)! فالفضح المعرفي والنقد المتبادل حتى لو كان ذاتياً وشخصياً لم يعد خارج الممارسة الثقافية بغض النظر عن مدى صوابيته فهو من صلب الممارسات السلطوية، حتى العنف اللفظي مورس عربياً من أكبر الكتاب العرب وهو يبيّن مدى الحضور الذاتي ودخوله في الإنتاج الفكري والفلسفي على عكس ما يطمح إليه بعض الوعاظ. فهذا فيلسوف عربي -على قيد الحياة- يأخذ على عبد الرحمان بدوي أنه يغلق الباب بعنف حينما ينزل من السيارة. وهذا بدوي يصف العقاد بـ(التافه)، وأركون ndash;حسب ما يروي سعيد اللاوندي- يقول (لا أخفيك أن بدوي كريه) والجابري وصف طرابيشي بـ(المسيحي) الذي لا يحق له نقد التراث الإسلامي. ومثله في الإنتاج الفلسفي الأوربي بين فخته وهيجل، بين هابرماس وفوكو، فالذات لا يمكن أن تنفكّ عن الإنتاج الفكري والفلسفي وهي تحضر بشكل أوضح في حال غيابها، إن المطالبة العمياء بتنقيه الإنتاج الثقافي من العناصر الذاتية والاقتصار على الموضوعية لم تعد فكرة ممكنة خاصة بعد التفتت الذي حدث منذ البنيوية بين الثنائيات الكلاسيكية (التركيب والتحليل) (العقلانية والتجريبة) (الذاتية والموضوعية) حيث حدثت تداخلات والينابيع اختلطت لا لتنتج فوضى فكرية وإنما لتَخرج من أسوارٍ قديمة لتنبت بمياهها الراكضة مجالات أخرى نقدية.
إن نقد دور المثقف ورصد دوره جزء من (نقد النقد) فهو أشبه ما يكون بالسحر المنقلب، لم يعد الكاتب بمنأى عن نقد ذاته، فمحض الذات بالنقد تجعل من الإنتاج سلسلة تشرح الحالة الذاتية للمثقف بتطوره وتنقّله، لم يعد الكاتب بمنأى عن استهداف كتاباته له، لتصبح الممارسة النقدية تأريخاً ومقياساً لمدى تطوّر التجاوب الذي يمارسه الكاتب مع حالته هو وحركة محيطه الثقافية، ليخرج الكاتب لا من عهدة النص الذي كتبه وإنما من أسْره، لن يصعق القارئ حينما يرى مسيرة علي حرب مثلاً وهي تتطور من (التأويل) في كتابه (التأويل والحقيقة) إلى تخوم التفكيك في كتبه (نقد النص/نقد الحقيقة/الممنوع والممتنع/هكذا أقرأ ما بعد التفكيك) فالكاتب واحد إلا أن النصوص مختلفة وفق التطوّر الذي يسكن الكاتب فهو يلد نصه ليحيا بدونه، ليعمل على إنتاج نصٍ آخر وفق تطور مستمر. بولادة النص يموت المؤلف باعتبار-افتراض- استحالة كون المؤلف هو ذاته فكرياً قبل وبعد كتابة النص، فالكاتب كالنهر يتطوّر باستمرار ومن هنا يأتي (القلق) من مدى كون quot;التعديلاتquot; على النص مشروعة علمياً.
كاتب سعودي
shoqiran@hotmail.com