كتبت العزيزة إنجي في زاوية التعليقات تطالبني أن أكتب عن ذكرياتي في العراق، والظاهر في هذه المرة تريد شهرزاد قلب الادوار والطلب من شهريار الكلام المباح والقص والبوح ، المفارقة رغم اني أعشق جدا قراءة السير الذاتية وذكريات الاخرين حتى لوكانوا غير مشهورين.. ألا انني أكره الحديث عن نفسي .

أعجابي بالعظماء الحقيقيين الذين أخترعوا الهاتف والقطار والطائرة والسيارة والتلفزيون والكومبيوتر والانترنت... قتل في داخلي كل شعور نرجسي وجعلني أشعر بالذنب والتقصير.

في شقتي لاتوجد اي صورة معلقة لي شخصياً، الصورة الوحيدة المعلقة في بيتي هي للعبقري توماس أديسون مخترع المصباح الكهربائي اضافة الى حوالي 1300 أختراع أخر فهل يحق لي امام العملاق اديسون الساكن معي في البيت الحديث عن نفسي ؟

و سؤال يطرح نفسه : لماذا لم أكن أحد هؤلاء المخترعين وأقدم شيئا كبيرا للبشرية ؟

كيف أصبح مخترعاً عظيماً، وانا ولدت محاصراً بحتميات جينات التخلف الوراثية القادمة من أجدادي المساكين الذين عاشوا في حضرموت في اليمن ولاأعرف كيف ومتى انتقلوا الى العراق، فكل الذي أعرفه انني أنحدر من قبيلة ((بني هلال )) قبيلة بطل قصة ابو زيد الهلالي المشهورة .

وهل من الممكن اصبح مخترعا وانا عشت داخل أسرة فقيرة بسيطة أمية لاتعرف القراءة والكتابة، ووالدي كان يحاربني ويشتمني لمجرد أني أِشتري الجرائد وأقرأها، وكنت أدخل الكتب سرا الى البيت وأقرأها رغم انها لم تكن كتب سياسية ممنوعة، ولكن ماذا أفعل لأهلي البسطاء الذين يعتبرون قراءة الجرائد والكتب خسارة للمال و مضيعة للوقت ؟!

والدي كان يرفض أدخالي في المدرسة، وسرقني من طفولتي وانا بعمر 9 سنوات واخذني عنوة الى العمل حيث كان ينتزعني من البيت الساعة 6 صباحا ويعيدني الساعة 8 مساءا، وامام إلحاح الناس أدخلني وانا في عمر 11 سنة في مدرسة مسائية، وعندها بدأ عذابي مع رعب الخوف من ظلمة الليل والكلاب السائبة اذا كانت منطقتنا لايوجد فيها خدمة كهربائية، و كنت أرجع من المدرسة وحدي وكان عذابا يوميا تخففه متعة الهروب من سلطة الاب والتمتع باللعب مع تلاميذ المدرسة.

هل يمكن أن يصبح المرء مخترعا في ظل هذه الظروف ؟.. كنت طالبا فاشلاً في المدرسة وضعيفاً في معظم الدروس، وكانت أمي تردد أمامي أنني بمجرد أكمال السادس الابتدائي سأترك المدرسة واتفرغ للشغل، وفي النهاية رسبت في الصف الثالث متوسط / التاسع وتم سوقي للخدمة العسكرية الاجبارية وأنتهى كل شيء.

وبدأت رحلة اخرى للدفاع عن حياتي، وتحقيق الذات، والشروع في برنامج للقراءات الحرة والتثقيف الذاتي وتجريب الكتابة... هل حققت شيئا ما في القراءة والكتابة ؟ الجواب لا، لايوجد ما يستحق الاشارة له.

من منظور التحليل النفسي دوافع الحديث عن النفس وأستعراض الذات والحديث عن منجزاتها الوهمية والحقيقية.. هي تعبير عن الشعور بالنقص الذي يتحول الى مرض حب الظهور والثرثرة الدائمة عن الذات للهروب اللاشعوري من ألم مشاعر النقص.

طبعا أستثني هنا الاحاديث الحميمية مع الام او الزوجة او الحبيبة او الصديق فهي ضرورة نفسية انسانية، ولكن بشرط ألا يصدر الشخص الذي نتحدث له احكاما معينة من قبيل النقد وتوجيه والمواعظ والنصح، وانما يقتصر دوره على الاصغاء والمشاركة، وهذا المرتبة الانسانية.. الاصغاء والمشاركة من قبل الاخر لنا في المجتمعات العربية للأسف نادرة جدا فالانسان العربي غالبا ما يكون انسانا مشوهاً غير قادر على بناء علاقة انسانية سليمة بعيدا عن أسقاط امراضه النفسية على الاخرين !

لاتوجد ذكريات تستحق الحديث في العراق.. كل ذخيرتي من هناك أكداس من الجروح والخيبات التي تجعلني أتساءل : لماذا خلقت في العراق ولدى هذه العائلة وفي هذه المدينة ومن هذه القومية .

وتظل الحياة عبء ثقيل.. والموت مجهول مرعب، وما بين الحياة والموت جسر من جحيم الانتظار !
[email protected]