لا يسع من يراقب ما يجري في العراق من صناعة للإرهاب والموت وحصد لرؤوس وأرواح البشر بالجملة والمفرد وتدمير المنجز الإنساني وبمديات واسعة لا مثيل لها في العالم أو في تاريخ العراق نفسه بما عرف عنه من فيضانات الدم والخراب، إلا أن يسأل: هل هذا كله من صنع طرف آخر معتد؟ هل هذا كما يقولون من صنع أعدائنا الأبديين الإمبرياليين والصهاينة وربما الهنود المساكين أيضاً؟ أم هو من صنع الطرفين معاً: الحاكمين وأيديهم الأخطبوطية من جهة، والعصابات الإرهابية القاعدية الوهابية والسلطوية السابقة المخلوعة وجماعات فرق الموت التي لها شرايين في أجهزة الدولة وفي دولة أو دول خارج الحدود!
سأترك للسياسيين المتصارعين على السلطة والثروة تأشير حدود التداخلات العملية والآلية والحربية بين مجالات نفوذهم وحصصهم الطائفية والعرقية، وسأبحث وباختصار شديد في القواسم المشتركة بين الذهنية العامة والثقافة المعتنقة من رأس ومجلس الحكومة التي أخذت السلطة بالشرعية الانتخابية الدستورية كما تقول وبين العصابات القاتلة المنفلتة كطعان الذئاب المسعورة والتي أخذت الأرض والشارع بالشرعية الدينية أو الوطنية كما تقول!
فكلاهما (مجلس الوزراء والبرلمان وأحزابهما، وعصابات الموت في الطرف المقابل) يؤمن بالله ورسوله واليوم والآخر عبر الشهادتين ويرتضي لنفسه الإسلام دينا، بل أصر على أن يثبته ديناً للدولة في الدستور، وشخص المذهب والطائفة المتزعمة، وجعل من الدولة العراقية دولة متدينة محجبة متشحة بالسواد كما يليق بعجوز مسلمة حاجة تقية ورعة، والشعب كله هم أبناؤها وهم متدينون حجاج شاءوا أم أبوا!
وكلاهما يصلي ( أو هكذا يفترض ) خمس مرات في اليوم، ويقرأ القرآن وربما بعضهم حج فعلاً،أو زكى حقاً أو زوراً، لا بل إن الدولة أبقت في علمها كلمتي (الله أكبر) وهي نفس العبارة التي ينطق بها الإرهابي حين يفجر نفسه ويقتل معه مئات الناس الأبرياء، والحكومة تصلى عبر الأثير أيضاً، فالفضائية العراقية تطلق الأذان في أوقاته ووفق الحصص الطائفية أيضاً، ثلاث مرات أذان على الطريقة الشيعية، وأذانين على الطريقة السنية، ولا حصة طبعاً، للمسيحيين والمندائيين أو الأيزيدين، يكفيهم حصصهم من القتل والتهجير طبعاً!
وكلاهما الحكام والخارجون عليهم يقرون الزواج من أربع، عدا ما ملكت أيمانهم، وكلاهما إذا دخلوا الجنة ولم يقبعوا في النار سيطوف عليهم غلمان وحور عين،وسيحل لهم الخمر فيعبون منه حتى الثمالة! وكلاهما يقر أن المرأة في الجنة سوف لا تكون زوجة بين ثلاث زوجات أخرى، بل بين مئات الزوجات والحوريات لرجل واحد، أي أنها ستفقد آخر حقوقها الدنيوية القليلة أصلاً!وكلاهما يؤمن بأن الإرث للذكر مثل حظ الأنثيين، وإن شهادة المرأة نصف شهادة الرجل، أو هي لا يعتد بها، وإن الرجال قوامون على النساء، وإن وجه المرأة عورة لذا يجب أن يخفى، وصوتها شهوة لذا يجب أن يكبت، وإن ضرب المرأة عقوبة وردت في القرآن على الوجوب أو الجواز، وكلاهما يرجم المرأة إذا زنت، ويصفق للرجل إذا زنى، ويجد له العذر للإفلات من العقاب،وكلاهما يقطع يد السارق ولا يحاسب من سرقه فألجأه للسرقة، وكلاهما يرى أن الفقير خلق فقيراً بمشيئة الله ومعالجة أمره بالصدقات،وكلاهما يقر كل وسائل الاحتيال على الزكاة ونكران الدخل،وكلاهما يرى بيت مال المسلمين هو بيت مال الخليفة الحاكم، وكلاهما يحصر الخلافة في قريش أو بني هاشم أو بني العباس أو بآل البيت أي أن ماعداهم أناس ناقصو الأهلية وخارج العنصرية الراقية الخاصة بالحاكمين المعصومين عن الخطأ والظلم والضلال ( تداركات أبي حنيفة لا يعتد بها )! وكلاهما يذبح الخراف والعجول المسالمة لكي يفرح في العيد السعيد على الدوام وكلاهما،لا يرى هلال رمضان إلا إذا لم يره منافسه الطائفي! وكلاهما لا يأكل لحم الخنزير، ولكنه يأكل لحم أخيه المسلم أو الذمي،وكلاهما يختن الذكر كأعظم راية في الفحولة والطهارة،وكلاهما يرى أن غير المسلمين هم أهل ذمة،يجب أن يوضعوا أمام ثلاثة،الإسلام أو الجزية أو القتل،وأفضل المذاهب من ركن إلى الجزية، وإن الجهاد في عمومه وإطلاقه فرض عين،ولكنه ليس كذلك إذا كان المحتل أجنبياً عثمانياً تركياً مسلماً، أو صفوياً فارسياً مسلماً،وكلاهما يوجب ذبح من لم يعد يعجبه الإسلام ويريد أن يعتنق ديناً آخر، أو أراد أن يبقى هكذا أعزب خالي البال دون دين أو مذهب، وكلاهما يرى الديمقراطية كفراً وضلالاً ويحاربها إلا إذا أتت به هو وعائلته وأصحابه الطائفيين إلى الحكم، وكلاهما يقاتل لكي لا يفصل الدين عن الدولة، أو الدين عن السياسة! ثم كلاهما يبدأ حديثه وعمله ( هذا إذا عمل) بالبسملة وينتهي منه بشكر الله على نعمه له طبعاً،ثم وبعد كل هذا كلاهما يرى أن الحياة الدنيا حقيرة تافهة وما هي إلا متاع الغرور ولا ضير أن تتلف وتدمر بالصلوات أو بالمتفجرات من أجل الحياة الآخرة التي هي خير وأبقى،وكل شيء يجب أن يضحا به من أجلها! وغير هذا كثير وكثير مما تتشابه أو تتطابق فيه ثقافة الحاكمين اليوم أو من سبقهم طبعا وثقافة الجماعات الإرهابية سنية أو شيعية! بعد كل هذا لم العجب إذا رأينا الجماعات الإرهابية تتزايد كلما أعلنوا عن تصفيتها أو مطاردتها هنا أو هناك! ليست هناك أية مبالغة في القول أن الحكومات الحالية وسابقتها هي بثقافتها وخطابها الثقافي المبثوث من إذاعتها وفضائياتها وصحفها وبياناتها وخطب أأمتها في الجوامع والحسينيات،وخطابها الأيدلوجي الحزبي والطائفي هي أعظم منتج للثقافة التكفيرية والإرهابية،وبالتالي هي أعظم آلة لتفريخ الإرهابيين، سواء كانت تدري أو لا تدري،وإن القواسم المشتركة الكبيرة والأساسية هي التي بين ثقافتها وثقافة الإرهابيين وليس بين ثقافتها وثقافة الشعب العراقي المغلوب على أمره،والذي صبر أكثر مما يجب! فالشعب العراقي ثقافته اليوم غاية في البساطة، وهي تتلخص بثقافة الحياة فقط، ثقافة العيش في هذه الدنيا كشعوب العالم الأخرى بهدوء وسكينة وتنشئة الأبناء على الخير والنور الطبيعي والصناعي والهواء النظيف والماء النظيف والخبزة النظيفة والكتاب النظيف! هذه هي ثقافة الشعب وطموحه اليوم، وتلك هي ثقافة الحكام الماثلين شبة الملثمين والإرهابيين الملثمين شبه الماثلين، في نطاق الديانة المتزمتة المتطرفة لا فرق بين خطاب سني أو شيعي، كلاهما في جوهره واحد،فهم يعتقدون أن البرلمان قد منحهم كل شيء حتى القداسة والألوهية! فهم ما كانوا ليصلوه لولا الفتاوى الدينية والابتزاز الديني وأموال المتدخلين الخارجيين لذلك هم يقولون ( نحن الحقيقة والعدل،والآخرون هم الباغون المرتدون الخارجون الذين يجب تصفيتهم كإرهابيين) ويستعيرون لذلك آية قرآنية ( سيصلون ناراً حامية )، والطرف الآخر يقول نفس الكلام أيضاً!
بالطبع لا أحد يطالب الحاكمين بأن لا يكونوا مسلمين أو أن لا يؤمنوا بتعاليم دينهم أو أن يزدروه، لا الأمر ليس كذلك،كل ما يطلب منهم أن يتركوا دينهم لأنفسهم وربهم،عباداتهم لهم ولا يزجوا الدولة والسياسة بها،وأن لا يدخلوا الدولة معهم إلى المحراب حين يصلون، احتراماً لمحرابهم في الأقل، وأن ينسوا الدولة وشئون الحكم حين يقفون أما إلههم احتراماً لإلههم في الأقل!
وكما ينسون ربهم حين يبحثون عن مآربهم الخاصة، عليهم أن ينسوا الدولة حين يمارسون دياناتهم وعباداتهم الخاصة!
الحكومات التي تدعي أنها تعالج العنف والإرهاب وفي نخاعها كل مكوناته هي مريض يداوي بالمراهم والمساحيق أوراماً ودمامل وبثوراً مشوهة تغطي جسده فتختفي اليوم لتظهر غداً، ولا علاج له إلا بتطهير دمه ونخاعه جذرياً ومن الداخل وبمضادات فعالة أو بجراحة عميقة وربما يقتضي الأمر استبدال دمه أو نخاعه كله! ترى من أية ثقافة ينطلق السيد بوش ومن معه في الغرب ليعول على هؤلاء الحاكمين في مكافحة الإرهاب في العراق وفي العالم؟
إبراهيم أحمد
التعليقات