ان البكاء على الأطلال ومساءلتها عادة قديمة عند العرب وربما ستبقى ملازمة لهم الى الأبد. وكذلك التفاخر بالأنساب وهجو الآخرين، وقد سبب ذلك مشاكلا وحروبا طاحنة بين القبائل. ولم يفلح الاسلام فى انهاء هذه الظاهرة البغيضة، بل نجدها تزداد فى كل يوم. كل منهم يقول انه الأحسن والأشرف وغيره هو الرديء والأردأ، وكل طائفة دينية تقول انها وحدها على حق وتتهم غيرها بالكفر؛ ويصل التطرف الى حد اتهام الآخرين بالردة وتفتى بقتلهم.

ومنذ ان انتقل الرسول الى جوار ربه، وبعض المسلمين مستمرين بالجدل على من هو الأجدر بالخلافة. ولا أظن انهم سيكفون عن ذلك مطلقا. لم يسمع أحد ان ايا من الخلفاء الراشدين الأربعة قد تضاربوا بالعصي او بالسيوف فيما بينهم، بل كانوا متماسكين مع الخليفة القائم يسدون اليه النصيحة ويرشدوه الى الطريق القويم اذا ما انحرف عنه. وكل هذا متفق عليه من قبل كل الطوائف ؛ فلماذا نأتى نحن بعد مرور 14 قرنا ونتجادل ويتطاول أحدنا على الآخر ويتطور الأمر الى القتل وسفك الدماء؟ سيكون من الصعب جدا ازالة الكراهية التى تأصلت فى النفوس خلال أجيال طويلة، وكلما خفت حدتها يظهر اناس يدعون بأنهم حماة للدين و يأخذون على عواتقهم وبلا وازع ديني اوأخلاقي تأجيجها. والبعض استغلها للكسب والتجارة بدون مبالاة بالنتائج، فأصدروا فتاوى القتل المدفوعة الثمن، وطبعوا ونشروا ملايين الكتب التى تفرق بين أبناء البلد الواحد لقاء أموال يصرف معظمها على اعمال الفسق والفجورالتى يزاولونها شرقا وغربا.

اعتدنا على تمجيد الأجداد وننسب اليهم المعجزات التى هى خارج قدرة البشر. نقدس الأولين وخاصة من لهم قربى من الرسول او من أصحابه او من احتك بردائه او سمع صوته او حتى من خصف نعليه!! والويل كل الويل لمن يعترض على أي واحد منهم أو ينتقد عملا من أعمالهم، فسوف يقال عنه أنه مرتد وكافر وينفذ فيه حكم الموت ويقولون انه حكم الله. لم يدعي الرسول ولا ذوى قرباه ولا أصحابه المقربين بعصمتهم، بل كلهم قالوا بأنهم بشر والبشر خطاؤن.

تربى معظمنا مع الخوف من الجن والشياطين الذين يطوفون علينا ليلا حسبما قال لنا أهلونا فننكمش رعبا فى فرشنا. وفى النهار نخشى غضب الله علينا فى كل مانفعله ونسأل أهلنا ومعارفنا اذا ما كان هذا العمل او ذاك حراما أو حلالا. علمونا فى صغرنا أن نقبل ايادى السادة والشيوخ وكل من يلبس عمامة أو جبة، وجعلونا نعتقد بأن هؤلاء الناس هم فوق باقى البشر وأقربهم الى الله، وانهم سيشفعون لنا عند الله ( يوم لا ينفع مال ولا بنون). منا من كان يختبىء تحت سريره او يغطى رأسه خوفا من اصوات الرعد ويصرخ رعبا اذا شاهد البرق، لأن أهلينا لم يقولون لنا بأن هذه ظواهر طبيعية بل قالوا لنا انها غضب من الله على عباده العاصين كما قال لهم دعاة الدين. و بعد ان كبرنا و تعلمنا وانجلت لنا الأمور، عرفنا دجل هؤلاء وخداعهم واستغلالهم طفولتنا أو جهلنا. من الناس من يدفع لهم المال والقرابين ليدخلوا الجنة مهما فعلوا فى حياتهم من آثام. حتى الفقراء من الناس ؛ منهم من يبيت على الطوى ليوفر النقود لهؤلاء الدجالين فتنتفخ كروشهم وتضمر أجسام الفقراء.

ويتمادى هؤلاء فى تدخلاتهم فى شئون الناس حتى الشئون الخاصة جدا، فيطلبون من الزوج تطليق زوجته لأنها من طائفة اخرى او بالعكس. ويصدرون فتاوى وأحكام بتكفير هذه الفئة او تلك. و فسروا بعض الآيات القرآنية حسبما يلائمهم واستخرجوا منها الطب والهندسة والفلك وعلم الفسلجة وغيرها، وسموها: معجزات القرآن. طبعوا الكتب الدينية الخرافية بالملايين، وتجد هذه الكتب أسواقا رائجة واقبالا شديدا على اقتنائها، ويمكن مشاهدة ذلك فى الساحة الهاشمية فى عمان و شارع المتنبى فى بغداد والعواصم والمدن العربية الأخرى، بينما الكتب العلمية والثقافية موضوعة على الرفوف الخلفية. أحاطوا من يرغبون بهم بهالات من القدسية ونسبوا اليهم المعجزات، ونفوا عنهم كل سهو وخطأ، لم يفعلوا ذلك حبا بهم ولكن فعلوه لكسب الأموال من الجهلاء الذين تبعوهم بدون تفكير. لكل انسان غرض وأمنية، فيقوم هؤلاء بايهامهم بأن فلانا وان مات قبل قرون طويلة يستطيع منحهم ما ما يتمنون وما يشتهون، والانسان بالفطرة يصدق بمثل هذه المواعيد المغرية ؛ كل ذلك مقابل مبلغ من المال يستلموه بدعوى توزيعه على الفقراء والمحتاجين بينما تدخل معظم تلك الأموال فى جيوبهم وحساباتهم المصرفية. ان المسلمين ليسوا وحدهم المبتلون، بل ان معظم معتنقى الأديان الاخرى ابتلوا بنفس الداء. انظروا الى الكنائس والمعابد الهائلة فى اوروبا وجنوب شرقي آسيا، وبعضها شيد منذ قرون بأموال الفلاحين وصغار الكسبة الذين يئسوا من الحصول على زينة الحياة الدنيا، فاقتطعوا من لقمة العيش ليدفعوا لدعاة الدين ليضمنوا لأنفسهم السعادة فى الآخرة.

لم يكتفى هؤلاء الدعاة بما ينهبوه من الناس باسم الدين فتدخلوا فى السياسة وصاروا ينصبون الملوك ويعزلونهم بمشيئتهم، ويبيعون لهم صكوك الغفران التى هى ضمان لجنة الخلد.
وانتبه الأوربيون فشنوها حربا شعواء عليهم وأعادوهم الى الكنائس ودور العبادة. فعلوا ذلك ودخلوا عصر النهضة بعد ان كانوا فى يعيشون فى العصور المظلمة. وهاهم بعض رجال الدين فى العراق تكاد تكون لهم السيطرة التامة على الحكومة يعودون بشعبنا القهقرى الى عصور الجهل والظلام. ويقال: عندما يشتد الظلام تظهر النجوم ؛ فهل ياترى سنرى النجوم وما يتبعها من بزوغ فجر جديد سعيد ام سنبقى نتخبط فى دياجير الظلام ونواصل البكاء والنحيب على الأطلال؟

عاطف العزي