على الرغم من حصول تراخ في القبضة الأمنية على المجتمع في عهد الرئيس بشار الأسد، قياساً عما كان عليه الحال في عهد الأسد الأب، لكن سياسة كم الأفواه واسكات المعارضة ومحو وجودها من الخريطة السياسية بقيت قائمة في العهد الجديد.اذ لا تكاد المعارضة السورية تلتقط أنفاسها وتعيد ترتيب صفوفها بعد كل اعتقال حتى تبدأ موجة جديدة من الاعتقالات تطال ابرز نشطاءها ووجوهها السياسية والحقوقية.اعتقالات خريف 2001لنشطاء ربيع دمشق.اعتقال أعضاء الأمانة العامة لمنتدى الأتاسي 2005.ايار 2006 اعتقال العديد من الموقعين على(اعلان بيروت دمشق) الذي طالب بتصحيح العلاقة بين سوريا ولبنان. ومع احتفال العالم بالذكرى السنوية لصدور الاعلان العالمي لحقوق الانسان في العاشر من كانون الأول الماضي 2007 قامت الأجهزة الأمنية بحملة واسعة من التوقيفات والاعتقالات طالت العشرات من اعضاء المجلس الوطني لاعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي.في وسط هذا المشهد القمعي للسلطة انفجرت التناقضات السياسية والخلافات التنظيمية داخل المجلس الوطني لقوى وأحزاب وشخصيات اعلان دمشق الذي انعقد في الأول من الشهر الماضي،وهو ما اعتبره المراقبون فشل المعارضة السورية في أول تجربة ديمقراطية لها.
أن تفجر الخلافات بيان تيارات المعارضة السورية وفي هذه المرحلة التاريخية الضاغطة على الجميع من المتوقع أن يكون له مضاعفات سلبية جداً ليس على مسار ووحدة المعارضة فحسب،وانما على مستقبل الحركة السياسية والديمقراطية في سوريا عامة،وان قلل البعض من أهمية الخلافات داخل قوى اعلان دمشق والقول:أن المعارضة زادت قوة وتماسكاً بعد الاعتقالات التي أجمعت قوى المعارضة على أدانتها وشجبها.اذ يبدو أن المضاعفات السلبية للأزمة المعارضة لن تتوقف عند تجميد الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي- أحد الأطراف الأساسية والمؤسسة لاعلان دمشق والتجمع الوطني الديمقراطي المعارض الذي يضم خمسة احزاب سياسية ndash; وشخصيات سياسية وحقوقية مستقلة عضويتهم في الاعلان،فقبل أيام اعلن حزب العمل الشيوعي هو الآخر تجميد عضويته في الاعلان،وذلك احتجاجاً على نتائج الانتخابات التي اعطت (التيار الليبرالي) أكثر مما يستحق في الهيئات القيادية المنتخبة للمجلس الوطني من جهة، وعلى الخطاب السياسي لبعض اطراف هذا التيار الذي تجاوز روح الوثائق الاساسية للاعلان، خاصة حول الدور الأمريكي في المنطقة،بحسب تصريحات قيادات الأحزاب والشخصيات المنسحبة من الاعلان والتي أكدت على أن عودتهم لن تكون من غير شروط (اعادة ترتيب وضع الاعلان تنظيماً وسياسياً).فمن دون شك،الفشل الديمقراطي للمعارضة السورية واخفاقها، بعد أكثر من عامين من النقاشات المتواصلة، في التوافق على قيادة منتخبة لمجلسها الوطني،وفي ارساء قواعد الديمقراطية والاحتكام اليها في تجاوز خلافاتها الداخلية، سيزعزع من ثقة الرأي العام بها من جهة،وسيزيد من مشاعر الاحباط واليأس السياسي التي تجتاح الشارع السوري منذ عقود من جهة أخرى.كما أن هذا الاخفاق الديمقراطي السريع للمعارضة السورية سيزيد الشكوك بقدرتها على تحقيق العهد الذي قطعته على نفسها(انهاء حالة الاستبداد وانجاز عملية التغير الديمقراطي في البلاد) وأعلنته في البيان التأسيس لاعلان دمشق. وبالمقابل،ربما هو الأهم والأخطر على مستقبل المعارضة، انفجار تناقضات المعارضة وبروز خلافاتها السياسية على السطح، قدمت(المعارضة) هدية ثمينة للنظام السوري الذي سيعزز موقفه الرافض للديمقراطية والانفتاح على الشعب السوري ويشجعه على ممارسة مزيد من القمع والبطش بها ومن الدكتاتورية على المجتمع والتمسك بشعاراته التضليلية فيما يخص عدم تأهل المجتمع السوري للانتقال الى مرحلة الديمقراطية السياسية.فضلاً عن أن تفجر أزمة المعارضة اعطت الفرصة للنظام للعب على تناقضاتها الايديولوجية وخلافاتها السياسية وتالياً احداث شرخ أو شروخ جديدة في صفوفها، من خلال معاقبة بعض اطرافها (التيار الليبرالي)المتهم،من قبل قيادات الاتحاد الاشتراكي ومن قبل شخصيات أخرى،أولاً: بإقصاء التيار القومي الناصري ممثلاً بالاتحاد - القريب في آيديولوجيته وعقيدته السياسية من ايديولوجية حزب البعث الحاكم- وإبعاده عن الهيئات القيادية الجديدة المنتخبة لاعلان دمشق.ثانياً: بمغازلته(التيار الليبرالي) للخارج الضاغط على النظام. صحيح أن موجة الاعتقالات الأخيرة لأعضاء اعلان دمشق،التي مازلت محصورة في المحسوبين على التيار الليبرالي والاسلامي، تؤكد مجدداً على مخاوف النظام وقلقه من المعارضة السورية، على ضعفها.وصحيح أيضاً أنها تهدف بشكل أساسي الى ترهيب المجتمع وعزله سياسياً من جهة وزعزعة الوضع التنظيمي للمعارضة واشغالها المستمر بقضية المعتقلين من جهة أخرى، لكن مع هذا، لا يمكن عزل هذه الاعتقالات الجديدة وفي هذه المرحلة تحديداً عن نتائج الانتخابات والسجالات السياسية التي جرت داخل المجلس الوطني لاعلان دمشق في اجتماعه الأخير.بغض النظر عن الخطاب التضليلي للطبقة السياسية الحاكمة في سوريا، حول عدم أهلية المجتمع السوري للديمقراطية، وما يشكله هذا النظام من عقبة أساسية وعقدة كبيرة في طريق التحول الديمقراطي في سوريا،أن فشل المعارضة السورية في اول اختبار ديمقراطي لها يؤكد على أن عملية التغير الديمقراطي الحقيقي في سوريا هي معركة تاريخية طويلة ومفتوحة، ليست فقط مع النظام وحزبه (البعث) الحاكم، وانما مع جميع قوى الاستبداد،السياسي والديني والاجتماعي، تلك المتواجدة داخل السلطة والمعارضة معاً.
لقد شكل (اعلان دمشق)للتغير الديمقراطي، الذي تأسس في تشرين الأول 2005وضم غالبية قوى المعارضة السورية(العربية والكردية والآشورية)،خطوة متقدمة على طريق توحيد المعارضة السورية و مد الجسور المقطوعة مع الشعب السوري المسحوق، صاحب المصلحة الحقيقة في التغيير الديمقراطي، ودفعه باتجاه الانخراط في الحراك الديمقراطي،من الخطأ التخلي عنه والتفريط به،وانما يجب العمل على توسيع هذا الاطار السياسي وتطويره ليتسع لجميع قوى التغير الديمقراطي في البلاد. وأن تضع المعارضة السورية خلافاتها السياسية والايديولوجية جانباً وعدم الخوض في تفاصيل البرامج السياسية المستقبلية لكل حزب أو تيار- لأن كما يقال الشيطان يكمن في التفاصيل- لكي لا تعطي الفرصة للنظام اللعب عليه والاستفادة منها في النيل منها في هذه المرحلة التاريخية الصعبة على الجميع في سوريا.فالأولوية يجب أن تكون أولاً وقبل كل شيء لانهاء حالة الاستبداد القائمة في البلاد وانجاز عملية التغير الديمقراطي التي تلاقت وأجمعت عليها مختلف تيارات المعارضة،باعتبارها المقدمة الضرورية والممر الإجباري لانقاذ سوريا من أزماتها ووضعها على سكة التقدم. من المؤكد هناك الكثير من التقاطعات والمشتركات الوطنية بين مختلف المعارضات السورية والتي يمكن أن تشكل(المشتركات الوطنية) قاعدة أساسية لوضع برنامج وطني مرحلي ولو بالحد الأدنى- ينطلق من حقيقة كون سوريا دولة متعددة القوميات والأديان والمذاهب واللغات،ومن ميثاق وطني ديمقراطي(دستور جديد) يضمن حقوق الجميع ويكفل التداول السلمي والديمقراطي للسلطة.حل مسألة القوميات حلاً ديمقراطياً عادلاً وبما يضمن وحدة وتماسك الدولة السورية كوطن نهائي لجميع السوريين- اذ ليس من المعقول الطلب في هذه المرحلة من القوى الاسلامية أن تعمل لأجل دولة علمانية كشرط للعمل والتحالف معها، كذلك ليس من المعقول أن يفرض على الأطراف القومية العربية التخلي عن برامجها و احلامها القومية في الوحدة العربية،كذلك بالنسبة للأحزاب الكردية والآشورية.فالقضايا الخلافية يمكن أن تطرح وتناقش بعد انهاء الاستبداد وانجاز عملية التغير والانتقال بسوريا الى دولة مدنية ديمقراطية التي في ظلها يمكن لكل حزب أو تيار (علماني، ليبرالي، اسلامي،مسيحي،ايزيدي،قومي عربي،كردي، آشوري،أرمني،ـتركما، شركسي، يساري،لا منتمي،... ) أن يعمل ويتنشط بشكل سلمي وديمقراطي وفق برنامجه السياسي الخاص،على أن لا يتعارض هذا البرنامج مع الثوابت الوطنية التي تجمع عليها القوى الوطنية.
الشيء المحزن سياسياً في الجدل الحامي والسجال المفتوح حول خلفية وأبعاد موجة الاعتقالات الأخيرة هو تعاطي البعض مع المعارضة وكأنها حالة سياسية طارئة في المجتمع السوري، برزت بموازاة الضغوط الدولية الممارسة على النظام في السنوات الأخيرة.هذا البعض،قصد ذلك أم لم يقصد،يثير الشكوك حول المعارضة والنيل من مكانتها الوطنية،وتالياً يقدم المبررات والذرائع للقمع الممارس، بحق معارضة وطنية شريفة، من قبل سلطة استبدادية اختزلت مفهوم الوطنية والوطنية بالولاء والطاعة للنظام الحاكم.الأمر اللافت في هذه القضية،أن معظم الذين تولوا مهمة التشويش على المعارضة بالنيابة عن السلطة، وربما بالتكليف منها، هم من خارج جبهة النظام. ناسين أو متناسين أن المعارضة السورية نشأت ونمت في رحم المجتمع السياسي السوري بعد نمو قوى الاستبداد وانقلاب حزب البعث على السلطة في آذار 1963واحتكاره لها وانفراده بالقرار السياسي والاقتصادي في البلاد. وأن المعارضة الحالية عارضت النظام الشمولي القائم واعترضت على توجهاته السياسية وعلى طريقة حكمه، لا بل كان الخطاب السياسي لهذه المعارضة في الماضي -حقبة الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي- أكثر تشدداً وحدية.حيث كانت ترفع شعار (اسقاط النظام) في مرحلة كان يتمتع فيها(النظام)بأفضل العلاقات مع المجتمع الدولي الضاغط اليوم عليه ليس بسبب سياسات النظام السوري تجاه شعبه، وانما على خلفية مواقفه من الملفات الاقليمية الساخنة (لبنان، العراق، فلسطين، ايران،..).والمعارضة السورية تعلم علم اليقين أن اثارة انتهاكات حقوق الانسان والحريات في سوريا في وجه الحكم القائم من قبل القوى الدولية من حين لآخر تأتي في سياق ابتزاز النظام و زيادة الضغوط عليه لدفعه باتجاه تغير سلوكه وسياساته فيما يخص دوره ونفوذه في الملفات الاقليمية.في ضوء هذه الحقائق السياسية لا يمكن للمعارضة السورية أن تراهن على العامل الخارجي في انجاز التغير الديمقراطي في البلاد، وانما رهانها كان وسيبقى أولاً وأخيراً فقط على الشارع السوري المستاء من الوضع القائم وصاحب المصلحة الحقيقة في التغير الديمقراطي في سوريا. ربما أقصى ما يمكن أن تذهب اليه المعارضة السورية في تعاطيها وعلاقتها مع العالم الخارجي هو الاستفادة من المناخ الدولي الجديد والايجابي الداعم لقضايا الديمقراطية وحقوق الشعوب المضطهدة،في كسب الدعم والتأيد لخياراتها الديمقراطية،وذلك عبر فتح حوارات ومد جسور مع المنظمات الأهلية وهيئات المجتمع المدني،والمنظمات الحقوقية الغير حكومية،المعنية بحقوق الانسان. غالباً،أن هذا التشويش على المعارضة والمزايدة عليها في الوطنية،من قبل من يعتبر نفسه ديمقراطياً ومعارضاً للسلطة، يأتي في اطار الوصولية أو (الانتهازية السياسية) التي برزت في الحياة السياسية السورية منذ سبعينات القرن الماضي كإحدى افرازات سياسية الترهيب والترغيب التي انتهجها الرئيس الراحل حافظ الأسد مع المجتمع السياسي في سوريا الذي انقسم على نفسه بين مؤيد ومعارض. فبعض الأحزاب تحالفت مع البعث الحاكم في اطار (الجبهة الوطنية) التي أسسها الرئيس حافظ الأسد عام 1972 وبعضها الآخر تمسكت بخيار المعارضة والمواجهة السياسية مع النظام، فكان مصيره السجن والمنافي.ويبدو اليوم أن نزعة (الانتهازية السياسية)برزت من جديد في الساحة السورية،حيث هناك من يغازل السلطة من قناة المعارضة الحقيقية وعلى حسابها،أما بسبب العمى الايديولوجي، أو طمعاً ببعض العطايا والمكاسب الحزبية والشخصية في العهد الجديد.
سليمان يوسف يوسف
كاتب وناشط سوري
[email protected]
التعليقات