يعتبر د. محمد عابد الجابري من اكبر المفكرين الإسلاميين في الوقت الحاضر، مما يعطي أهمية خاصة لمقالاته التي ينشرها على موقعه على الانترنت لكن المفكر المرموق جانب الصواب - من وجهة نظري - عندما اعتبر العولمة ndash; بصفة عامة و العولمة الثقافية بصفة خاصة ndash; تنينا، كما جاء في مقاله: quot;تِنِّين العولمة... واستقلال التعليم quot;.

بدا د. الجابري مقاله بوصف العولمة في العهد القديم على اعتبارها: quot; إما نتيجة التحركات السلمية كالتجارة والحج إلى الأماكن المقدسة... وإما نتيجة الحروب، خصوصاً منها تلك التي تكتسي صورة فتوحات دينية أو توسعات إمبراطورية استعمارية.quot; و هنا اعتذر للقارئ عن عدم قدرتي فهم ما أراد د. الجابري قوله عندما كتب: quot; في كلتا الحالتين كانت الهوية تحتفظ لنفسها بوجودها المستقل. فالبلدان المفتوحة، تحت هذا الاسم أو ذاك، كانت شعوبها وأقوامها تحتفظ بهوياتها. فالشعوب التي انتشر الإسلام في بلدانها، مثلاً، بقيت هوياتها -سواء أسلمت كلياً أو جزئياً- مستقلة مصونة، نادراً ما تعرضت لاختراق، بل إن الذي حصل في الغالب هو إدماج الدين الوافد ضمن الهوية الوطنية quot;. كما هو معلوم في حالة مصر و شمال إفريقيا، تم تعريب هذه المناطق التي كانت تستعمل لغاتها الأصلية ( اللغة المصرية القديمة في مصر و اللغة الامازيغية في شمال إفريقيا )، و تحولت الأغلبية من سكانها من المسيحية إلى الإسلام. فإذا كان د. الجابري يرى في هذا: quot; احتفاظا للهوية لنفسها بوجودها المستقل quot;، من الصعب أن نرى ما سوف يحصل في حالة فقدان الهوية.

اعتبر د. الجابري ان: quot; ما يميز العولمة المعاصرة عن سابقاتها هو أنها تضيف إلى العالمين quot;القديمينquot;، عالماً ثالثاً، جديداً تماماً، هو العالم الافتراضي عالم الإنترنت... إن تأثيره العولمي يتجاوز مجرد اختراق البلدان وتداخل الثقافات إلى اختراق الهويات، هويات الأفراد والجماعاتquot;. و هنا لا بد من التنويه إن د. الجابري قد تجاهل بعدا أساسيا للعولمة ألا و هو التجارة الحرة لتبادل السلع و الخدمات، الذي ينعكس على الثقافة أيضا بتبادل الأفكار و العلوم و القيم الثقافية. فانتشار الترانزيستور و التلفزة على نطاق واسع لعب دورا أساسيا في انتشار موسيقى الروك، على سبيل المثال.

أما بخصوص الموقف الواجب اتخاذه، يقر د. الجابري بوجود موقفين اثنين: quot; المدافعين عن التراث/ الأصالة و المدافعين عن الحداثة -التي يجب استيرادها من الغرب-... تتجاوزهما وتلغيهما، هوية عولمية فردانية ترفض الماضي وتتمسك بمجهول quot;المستقبل الافتراضيquot; وهوية عولمية ماضوية ترفض الحاضر وتتمسك بـquot;المستقبل الماضيquot;. و هنا لم يقدم لنا د. الجابري أي حل قابل للتنفيذ للاختيار أو التوفيق بين الطرحين ( الافتراضي و الماضوي )، إذ اكتفى بالتوصية بــ quot; توسيع دائرة quot;المواكبةquot; والتمييز فيها بين المواكبة التي ننشدها ونخطط لها، وبين المواكبة التي تقود إليها كل من quot;عولمة المستقبل الافتراضيquot; وquot;عولمة المستقبل الماضيquot;. و هذه تعابير فضفاضة لا يمكن أن تكون أساسا لإستراتيجية عملية تساعد صناع القرار.

يعود هذا الفشل ndash; في تقديرنا ndash; لفشل د. محمد عابد الجابري في الإقرار بان العولمة الثقافية هي ابعد ما يكون عن تنين هجم علينا في بيوتنا بالقوة، إذ هي خيار حر للمواطنين الذين يختارون الأحسن مما هو متوفر عالميا في المجال الثقافي، تماما كما هو الحال في مجال التجارة الحرة للسلع و الخدمات. و الفرق بين هكذا خيار حر و هجمة تنين كالفرق بين الثرى و الثريا.
لقد أدرك د. أحمد البغدادي هذه الحقيقة في مقاله الأخير quot;هيمنة الثقافة الأميركية في عصر العولمةquot;، إذ اقر بجدارة الثقافة الشعبية التي أسسها الأميركيون، عندما كتب: quot; لقد quot;تأمركتquot; الحياة على سطح الكرة الأرضية، وباختيار الشعوب جميعاًquot;. و هكذا اختيار حر للشعوب لا يمكن أن يؤدي بطبيعة الحال إلا إلى الأفضل. للأسف، عوض أن يدرك العرب هذه الحقيقة و يعملوا على المنافسة في الساحة الثقافية العالمية، بقوا عاجزين يختبئون وراء quot;كليشيهات quot; الغزو الثقافيquot; و quot;المحافظة على الهويةquot; عوض التوجيه بضرورة و كيفية الاستفادة مما توفره العولمة من فرص استفادت منها الدول الاسياوية، على سبيل المثال، أيما استفادة.

د. أبو خولة
[email protected]