اختلف المؤرخون في تفسير العلاقة بين الشخصيه الإسلامية البارزه علي بن أبي طالب والمذهب الشيعي فمن قائل إن علي هو مؤسس هذا التيار بعد أن أعلن أحقيته بالخلافة خلفا للرسول محمد (ص) إلى قائل انه نشا خلال خلافة علي بعد انقسام المسلمين بين علي ومعاوية حيث مثل معاوية التيار المناهض لتيار علي والذي غدا في ما بعد الأساس لمذهب أهل السنة إلى قائل با ن هذا التيار اى التيار الشيعي هو رد فعل لمأساة كربلاء حيث هدف إلى الثار لهذه المأساة وإعادة الخلافة إلى ورثة علي بعد أن فقدوها في عهد معاوية وبالتالي نلاحظ تجاهل غالبية المؤرخين للدافع الأساس في نشوء مذهب التشيع وهو توق سكان العراق الأصليين لاستعادة مكانتهم السابقة وحقوقهم المستلبة حيث دأب الغزاة والمحتلين إلى تجريد العراقيين من حقوقهم وتعريضهم للكثير من الإجراءات القاسية ولم يستثنى من ذلك حتى الغزو / الفتح العربي ولعل أهم تلك الإجراءات التي كانت تمارس باستمرار ومورست في العهد الجديد أيضا فرض الضرائب العالية على أنتاجهم الزراعي ك ضريبة الخراج وتعرضهم لشتى صنوف الاهانة والازدراء ( يقول اودونيس في كتابه الثابت والمتحول لدى العرب أن (شعور العربي أبان الفتح انه غاز والشعب الذي يغزوه لايختلف عنه وحسب وإنما هو دونه في المنزلة وهذا النزوع العنصري مما دفع العربي إلا مزيد من التمسك مما يبقي على المسافة بينه وبين الأخر أي بلغته على الأخص وبماضيه الثقافي والديني بعامة) انظر : اودونيس الثابت والمتحول لدى العرب وهذا ما أكده أيضا احمد أمين في كتبه ضحى الإسلام، ج1، ص18ـ29. وأيضا سبق لي طرح الموضوع في مقالتي (لمحات مهملة من تاريخ العراق الاجتماعي) جريدة الصباح العدد (1150) في 1 / تموز / 2007 ) الأمر الذي دفعهم إلى مواجهة هذا الأمر بوسائل مختلفة أهمها محاولة الانضمام إلى القبائل العربية تحت صفة الولاء(يقول علي الوردي في هذا الخصوص (يخيل لي أن عامة الموالي قد فعلو مثل هذا في العهد الأموي أو في العهد العباسي ـ يقصد الدخول نحت حماية القبائل العربية ـ والظاهر أن هناك نفر من الموالي لم يعجبهم ذلك وربما كان هؤلاء من وجهاء الموالي أو من أدبائهم وعلمائهم ففضلوا أن يبقوا معتزين بأنسابهم أو كفايتهم الشخصية واخذوا يتحدون العرب وينازعونهم في الفخار قليلا أو كثيرا) انظر : طبيعة المجتمع العراقي، ص97.) أو من خلال الاعتزاز بإرثهم القديم ومقارنته بإرث العرب البدوي أو من خلال العمل التنظيمي المسلح وبالطبع لن يجري ذلك خلال العشرين سنة الأولى من زمن الوجود العربي الإسلامي أنما تمت هذه العملية على مراحل حتى أخذت شكلها النهائي في فترات أخرى لاحقة ورب سائل يسال لماذا كان رد فعل العراقيين قويا وواضحا بعكس ما كانوا عليه أبان السيطرة الساسانية ؟ وللإجابة على ذلك نقول أن هناك ربما بعض الشبه في تعامل السلطتين الساسانية والعربية مع العراقيين الذين كان ينظر لهم على أنهم مجرد أتباع ومعاملتهم يجب أن تأخذ هذه الصفة ولذلك من المنطقي أن يكون لدى العراقيين رد فعل إزاء السيطرة الساسانية إلا انه على الأرجح لم يصل إلى الحد الذي وصل أليه رد فعلهم ضد قسوة بعض العرب وذلك بأنهم وجدوا أن بعض العرب نظرا لطبيعتهم البدوية كانوا يغالون في تعاليهم وعجرفتهم ما جعلهم يستفزون نفوس الطبقات المسحوقة من المجتمع العراقي فيما كان لوجود فئات معارضة عربية دوره الحاسم في تشجيع العراقيين على المضي في حركتهم المناهضة لسلطة العرب المسلمين الأمر الذي أدى إلى ظهور بعض المثقفين الذين حاولوا تفنيد دعاوى الشوفونيين أولا بإبراز أن الإسلام يمقت أساليبهم العنصرية ثم بمحاولة أبراز رجحان الثقافة العراقية على الثقافة العربية البدوية(وهذا ما أكده علي الوردي في كتابه دراسة في طبيعة المجتمع العراقي، ص96. وأيضا كتابه مهزلة العقل البشري ص354 ـ 357. )
وفي ما يتعلق بالهدف الأول حاول العراقيون على الأرجح التحالف مع الحزب العربي المعارض الذي كان يتزعمه آنذاك علي بن أبي طالب بالرغم من وجود بعض الاختلافات بشان أسلوب كل منهما في معالجة المسالة سيما طريقة مواجهة السلطة الممثلة آنذاك بالخليفة عثمان بن عفان (لا يجب أن نعتبر سلوك السلطة آنذاك على انه تجاوز على بعض التعاليم الإسلامية أو خط الإسلام لان الإسلام مازال آنذاك في مرحلة تفسير وتأويل النصوص وبالتالي فان ما حصل في عهد عمر بن الخطاب هو اجتهاد من الخليفة في تأويل النصوص الدينية التي لديه ونفس الشيء في عهد الخلفاء الذين جاءوا من بعده لان الإسلام كما نعرفه ألان لم يبرز إلا في فترات لاحقة) لكن ليس هناك جدل حول التعاطف والتعاون الذي جرى بين الطرفين بغض النظر عن الهدف أو النتيجة التي ألت أليها الأحداث إذ رافق ذلك على ما يبدو تعرف الأمام علي على ثقافة القوم وتاريخهم ( في وصية الإمام علي لابنه الحسن ما يدل على ذلك حيث يقول( أي بني إني وان لم أكن عمرت عمر من كان قبلي فقد نظرت في أعمالهم وفكرت في أخبارهم وسرت في أثارهم حتى عدت كأحدهم بل كأني بمنتهى إلي أمورهم قد عمرت مع أولهم إلى أخرهم فعرفت صفو ذلك من كدره ونفعه من ضرره فاستخلصت لك من كل أمر نخيله). نهج البلاغة، ج2، ص46. )
ولا يستبعد أنهم اتخذوا ترتيبات معينة ومنسقة لدفع السلطة إلى زاوية من الزوايا ليكون بالإمكان مواجهتها حيث يقوم كل طرف من جانبه بما يترتب عليه القيام به الإمام علي وأصحابه لدعمهم لمطالب الناس أمام السلطة والناس بممارستهم الضغط والتذمر إزاء ما يحصل لهم وما يتعرضون له من اهانة وقسوة وفي هذه المرحلة تقريبا ظهرت شخصية عبد الله بن سبأ التي ثار حولها جدل كبير سواء من المشككين بوجودها أو بالغامزين لدورها الذي وصفوه بالفتنة مع أن الرجل بغض النظر عن حقيقته كان جزءا من متطلبات المرحلة ولابد إن ننظر إلى شخصيته من هذا المنظار فهو قد أكد مطالب الناس وعمل من اجلها (هناك جدل كبير حول شخصية عبد الله بن سبا الذي لقب بالمصادر العربية الإسلامية بابن السوداء والذي قيل انه يهودي ومن أهل اليمن فهناك من ينكر وجوده على أساس تضارب المعلومات حوله واحتمال اختلاقه من بعض الفرق تنكيلا بفرق أخرى وهناك من يثبت حقيقة وجوده ودوره في أحداث حكم عثمان وبدورنا نعتقد أن الرجل موجود فعلا وهو جزء من ضرورات المرحلة وظروفها ولو لم يوجد رجلا بهذا الاسم فهناك بالتأكيد الكثيرين غيره ممن أغفلهم التاريخ أو تعمد عدم ذكرهم ومهما يكن الأمر ورغم إننا لا نستطيع أن نغفل وجوده فأننا في الوقت نفسه لا نستطيع أن نؤكد الكثير مما نسب أليه أو أصله اليهودي اليمني ومن الممكن أن يكون الرجل من سكان العراق
حول شخصية عبد الله بن سبا انظر طه حسين، الفتنة الكبرى ـ علي وبنوه، ص98ـ 102. )
ولعل مما يشير لدوره الهام في أحداث عهد عثمان ولدور العراقيين فيها ما يطرحه الطبري في تاريخه من أن بعض خطب أبي ذر الحماسية والكثير من عناصر مضمونها تتم بإيحاء من عبد الله بن سبأ (انظر الطبري، ج5، ص66) حتى نجح في مسعاه لتتحرك الجموع نحو المدينة في غزو معاكس شارك فيه المصريون أيضا و مع أن الخليفة قد نزل عند مطالب الناس إلا أن شخصيات من الحزب المتنفذ لم ترد ذلك فحاولت الالتفاف على هذا المكسب (تنبأ لنا مشاركة المصريين في الحركة عن أمرين مهمين أولهما أن الظروف التي دفعت العراقيون للثورة كانت ماثلة هناك أيضا والأمر الثاني أن هناك تنسيقا في التحرك ربما تم بإيعاز من قيادة المعارضة التي كان يمثلها آنذاك علي بن أبي طالب وجماعة الصحابة المعارضين ) الأمر الذي تسبب في استثارة الجموع واستهداف الخليفة نفسه وذلك سنة 656 ميلادية ومن ثم انتقال الخلافة تحت وطأة الجموع الثائرة إلى الإمام علي بن أبي طالب (علينا أن نتمعن في هذا الأمر فالذي أوصل الخلافة إلى الإمام علي هم الثائرون أنفسهم وليس الصحابة الذين اضطروا على ما يبدو للموافقة على هذا الاختيار الذي يعني لهم الكثير حيث تمثل سياسة الإمام علي المعلنة من آراءه وأفكاره تقاطعا حادا مع الكثير من أهدافهم وتطلعاتهم ) الذي اتخذ على الفور جملة من الإجراءات أهمها عزل الولاة الفاسدين وإعلانه سياسة جديدة مع شعوب الإمبراطورية من غير العرب والتضييق على الصحابة وتقليل مخصصاتهم المالية الأمر الذي اوجد رد فعل معاكس منذ اللحظة الأولى فخرج بعض الصحابة وعلى رأسهم طلحة بن عبد الله والزبير بن العوام وترافقهم زوجة الرسول عائشة بنت أبي بكر إلى العراق وبالذات البصرة الأمر الذي دفع الإمام علي بن أبي طالب للانتقال إلى الكوفة حيث أنصاره للاستعداد من هناك لمواجهة المتمردين المدافعين عن حق الصحابة حيث أدت معركة الجمل إلى نتيجة مغايرة لهم مما أدى إلى ترسخ المنهج الجديد على الأقل بما تبقى من عهد الإمام علي (يقول الأمام علي ردا على من يلومه على هذا النهج (لوكان المال لي لسويت بينهم فكيف وإنما المال مال الله إلا وان أعطاء المال في غير حقه تبذير وإسراف) نهج البلاغة، ج2، ص10. )
لقد تولد من هذا التعاون واقع جديد هدف إلى عقد مصالحة بين العرب وسكان العراق الأصليين ليحيا الجميع بعز ووئام تحت راية الإسلام حيث أشار الأمام علي مرارا إلى متانة العلاقة بين الشعبين وما بينهما من صلاة قربى لاسيما وبشكل أساس القرابة اللغوية حيث أكد أكثر من مرة انه وقريش من نبط كوثى لان إبراهيم منهم ( معجم البلدان ج4 ص488) محاولا تفتيت الوهم العربي بأفضليتهم على الشعوب الأخرى ولعل مما يجلب الإعجاب تمكن الإمام علي وفي وقت قصير من خلق هوية تجمع العرب والسكان الأصليين في العراق تحت اسم أهل العراق مقابل أهل الشام الذين مثلوا الجانب الأخر من المعادلة على الرغم مما قد يشار لدور حالة الاحتراب في إنتاج الهويتين ك تعبير عن الانقسام الحاصل في الجماعة الإسلامية هذا الانقسام الذي يبدو انه لم يكن له تأثير ملموس على سياسة معاوية الذي بقي على الأرجح يمارس التفرقة بين رعاياه من العرب والشاميين الأصليين بالرغم من انه أيضا فضل أهل الشام على أهل العراق وربما لم يفرق كثيرا في ذلك بين عرب العراق ومواليه الأمر الذي خلق نقمة عراقية عامة (أي شملت العرب والموالي ) ضد سيطرة الأمويين استفاد منها المعارضون في جعل العراق بؤرة توتر وقلاقل بوجه الأمويين الذين واجهوا ذلك بشتى صنوف القسوة والعنف وبالتالي نحن نرجح أن الهوية الشامية لم تتبلور في عهد معاوية لان الأخير كان مركزا على قضية العرب وحقهم في السيادة على الشعوب الأخرى ومنهم الشاميين لكن مع ذلك يحتمل انه ربما تبنى مثل هذه السياسة في بعض الفترات لدعم مجهوده الصراعي مع علي لكنه حاد عنها بعد أن ضمن الفوز في هذا الصراع ما يجعلنا نعد الهوية العراقية أول هوية من نوعها أمكنها البروز في الحقبة الأولى للوجود العربي لكن الأمر لم يستتب هكذا لان معاوية بن أبي سفيان ممثل قريش والعرب مازال موجودا ولم يتعرض بعد إلى الهزيمة وهو يلوح بطلب الثار لدم عثمان ما دفع الإمام علي إلى إعداد نفسه لحسم هذه المعركة مستفيدا من نتائج نصره السابق وبالفعل وقعت معركة صفين سنة 658 ميلادية التي لم تحسم الموقف عسكريا بل استمرت نتائجها تشكل كابوسا لجبهة الإمام علي الذي تورط أيضا في نزاعات داخلية لان هناك جماعات وجدت في سياسته ما يناقض أهدافها أهمها :
1. جماعة مؤيدة لخط معاوية ومعارضة للمساواة مع الموالي وضمت رؤساء القبائل العربية وأتباعهم حيث كان الأشعث بن قيس زعيم كندة ابرز ممثليهم خلال هذه الفترة.
2. جماعة تدعوا إلى إعطاء حقوق اكبر للعراقيين الأصليين.
3. جماعة الخوارج الذين رفعوا شعارا دينيا متطرفا ومارسوا القتل والتخريب باسمه (يبدو أن تطرف هؤلاء له علاقة بالوضع الفكري لتلك الفترة لاسيما بوجود العقائد والملل المختلفة وربما نبع مذهبهم من بنية ذات صلة بالموروث الرافد يني الأمر الذي تمظهر من خلال بنية الوعي في شكل ديني متطرف حمل شعار (لاحكم إلا لله) حيث وصف الإمام علي شعارهم هذا بأنه (كلمة حق يراد بها باطل لأنه لابد للناس من أمير بر أو فاجر....) انظر نهج البلاغة، تحقيق محمد عبده. ص87)
حاول الإمام علي أن يوفق بين الأطراف الثلاثة أو أن يعمل على الحد من تأثيراتهم السلبية مستخدما العديد من الوسائل ومن بينها العمل المسلح حيث اشتبك مع الخوارج في معركة النهروان وربما نجح إلى حد ما في تخفيف التوتر لفترة من الوقت وتهيئة الناس لمجابهة معاوية.
لكن موقف العراقيين المؤيد لحكومة الإمام علي لم يتعدى كثيرا الجانب الوجداني لأنهم مازالوا على اعتقادهم القديم بان الحكومة ليست لهم لذلك كانوا يميلون إلى اللامبالاة والتملص من كل ما يطلب منهم أو يوضع على عاتقهم من مهام حتى أن الإمام علي أدرك هذا الأمر وحاول إصلاحه بالوسائل الإرشادية والنقدية دون جدوى( يلاحظ في هذه الفترة أن الإمام علي اخذ يستخدم أسلوب التقريع والذم ضد أهل العراق ويبدو أن المقصود بهؤلاء السكان من غير العرب لأنه من جانب أخر قد مدح في خطبه الكثير من القبائل العربية ما يدل على تألمه من خذلانهم له سواء بتقاعسهم عن نصرته أو بعملهم الدءوب للحصول على المزيد من المكاسب مستغلين وضع الإمام علي الصعب وفي هذا يقول (قاتلكم الله لقد ملأتم قلبي قيحا وشحنتم صدري غيضا وجرعتموني نخب التهمام انفاسا وأفسدتم علي رأيي بالعصيان والخذلان) نهج البلاغة، ص66.) وأخيرا انتهت حياة الأمام علي يد جماعة الخوارج ليتحول ميزان القوى إلى معاوية الذي استثمر موت خصمه لصالح تشديد سطوة القبائل العربية على مقدرات البلدان المغزوة / المفتوحة ومنحها الكثير من الامتيازات على حساب حقوق الشعوب الأصلية.
باسم محمد حبيب
التعليقات