صراع البقاء بين مؤسسات الفناء ومؤسسات النماء في الدولة العربية الحديثة
أصبح لدى المراقب العربي حصانة عجيبة في تقبله للإحصائيات المحبطة عن مستوى التنمية في العالم العربي والتي تصدرها مراكز دراسات التنمية التابعة للأمم المتحدة. والتي أثبتت صحتها، الدراسات الخارجة كذلك من الجامعات والمعاهد العربية المتخصصة. والتي بدورها، أكدت على مستوى التنمية المتردي في الدول العربية، مقارنة بالدول التي تعتبر أقل منها من ناحية الإمكانيات المادية والبشرية. والتي دخلت كذلك في مجال المدنية والتنمية بعهدها بعقود عدة.
هذا من ناحية الحاضر. أما من ناحية المستقبل، فالأمر كئيب ومرعب. حيث رصد مركز دراسات استشراف المستقبل بالولايات المتحدة في دراسة له، التطور الإداري في تاريخ البشرية، وتوصل لنتيجة مفادها: أن التطور الإداري الذي حدث في العشرين سنة الأولى من القرن العشرين، تعادل التطور الذي حدث في القرن التاسع عشر.. وتوقع المركز، بأن التطور الذي سيحدث في القرن الواحد والعشرين، سوف يوازي تطور عشرين ألف سنة مضت.. أي أن كل سنة تمر على العالم المتقدم، سوف يتطور فيها بما يوازي ميئتي سنة من الماضي.
وفي العالم العربي مازلنا نبحث في مسألة كيفية فك السحر وماهية الجن وهل هم يسكنون منازلنا وأجسادنا أم البراري والقفار؟؟!!. ومدى قوة تأثير العين والحسد عن قرب وعن بعد كذلك؟؟!!وهل يجوز أن تقود المرأة السيارة أم لا يجوز، ومامقدار المساحة بالمليمترات التي يجب على المرأة إخراجها من عينيها حتى تتلمس طريقها؟؟!!... وهل يجوز التزاوج بين المواطن القبيلي وجاره المواطن الخضيري؟؟؟!!! وهل المواطنون الشيعة أخطر علينا من الصهاينة أم لا؟؟؟!!!وهل..وهل..؟؟؟!!!! وقد أحلنا هذه الأسئلة وغيرها من الترهات، إلى قضايا وجودية مصيرية تقلقنا وتقض مضاجعنا وتشتت مجالسنا وتخلق العداوات بيننا، بحثاً عن إجابات كافية وشافية لها. وأفردنا لها بحوث وكتباً ومحاضرات وندوات وتحقيقات وبرامج إعلامية وأدخلناها حتى ضمن مناهجنا المدرسية.
والسؤال الذي يطرح نفسه علينا هنا وبإلحاح: هو من يثير هذه التساؤلات والترهات وينفض عنها غبار الماضوية كلما اعتقدنا بأننا تجاوزناها؟ ويطرحها أمام طاولات وساحات نقاشاتنا مرة ثانية وثالثة وبأسلوب جديد ووسائل أحدث؟؟!! وبنفس الشدة تهيننا ككائنات مفكرة وتسخر من قدراتنا العقلية. باختصار، من يريد ربطنا بهوامش وحواشي الماضي ويفرضها علينا كمتون للحاضر ونظريات ننطلق منها للمستقبل رغماً عما نملكه أو دعيه من علم وثقافة؟؟؟
كل ثقافة تحمل داخلها بذور بقائها و بذور فنائها. والفرز بين بذور البقاء والفناء داخلها تحتاج لمبضع حاد مغموس بدواء العلم والحكمة. يحده مفكرون عالمون بسيرورة التاريخ ومنظرون واعون بتفاصيل وكليات وضرورات وأهداف التنمية. ويمسك بنصله سياسيون جراحون مهرة، وبشجاعة المسئولية الوطنية والتاريخية، يقومون بإجراء عمليات تقطيع للفاسد وكل مافسد من جسد الثقافة. ويبقون على الصالح منها، ويحمونه بأمصال الرعاية والتحصين، حتى يؤدي مهمته بأمان، ثم ينتقلون بعده لما سيفسد بعده.
فبذور فناء أية ثقافة مثل التعلق بالخرافة وبدائية التفكير وتسطيح الأمور و الخوف والتردد المفرط والشك والعنصرية والعدوانية والحدة تجاه الأخر، تكون عالقة فيها، تاريخياً. وذلك لكونها حتمية ابتداء وجود، ودفاع عن النفس خلال فترة تأسيس الدولة. حيث كانت الدولة تحتاجها كشرعية تستمدها من ثقافة شعبها لتعبر عنه من خلالها. وبعد الانتقال من التأسيس لحقبة التسييس والتقدم، يلفظ الجسد الثقافي الرشيد بذور فنائه، وينمي ويحمي بذور بقائه، ومنها العقلانية ورفض الخرافة وتسطيح الأمور والثقة بالنفس والانفتاح على الأخر والأخذ بأسباب التقدم والتحديث بدون خوف وتردد، إلا من أن تسبقه المجتمعات الأخرى إليه. حيث تنتقل شرعية الدولة من شرعية التواجد إلى شرعية الوجود وهي البقاء من خلال التقدم والمنافسة.
وتكون بذور الفناء أشد فتكاً بالجسم الثقافي للدولة، وتجعلها عصية على التغيير، عندماً يؤسس عليها مؤسسات، رسمية كانت أم شبه رسمية أو أهلية، تؤطرها وتشرعن لها وتبشر بها وتحميها. ومثل هذه المؤسسات، التي كانت حاجة تأسيس وحماية للمولود الغض، أخر من يتقبل حقيقة انتفاء وجودها داخل الدولة. ويصعب إقناعها بأن هذا المولود قد شب عن الطوق وأصبح ند لمن حوله. وإنه دخل في مرحلة تاريخية مغايرة؛ تتوجب زرع بذور مغايرة وإسنادها بمؤسسات جديدة.
حيث تظل المؤسسات القديمة تقاوم حقيقة انتفاء وجودها عن طريق آليات دفاعاتها الذاتية. واعتبار نفسها أمر واقع وحتمية وجود وتواجد، وذلك بفرض نفسها من خلال الثقافة، كثابت من ثوابت الوطن والمساس به تهور غير مرغوب وغير محسوب من قبل السياسي، ونذير شؤم للأمة وخرابها وزوالها. وليس بالضرورة بأن يكون هذا الدفاع نتاج إيماني أو وطني، وإنما قد بكون بدافع حماية المصالح الاقتصادية والوجاهة الاجتماعية أو العقائدية التي اكتسبها منسوبيها ومن ربطوا ٍأنفسهم بها، خلال تاريخ وجودها.
ومن طرق دفاع هذه المؤسسات عن نفسها، مقاومة إنشاء أي مؤسسات حديثة مواكبة لروح العصر ومتطلبات المرحلة. حيث بالضرورة تكون فلسفتها وأنظمتها، مناقضة لفلسفة وأنظمة المؤسسات القديمة، وملغية لدورها. ومن هنا تستند هذه المؤسسات، في صراع بقائها مع نظيراتها الحديثة، على الخطاب الشعبوي الماضوي، وتبثه بين الناس، من منطلق بأن quot; محاولة المساس بها هو مطلب خارجي غير وطني... ومن يطالبون بذلك ما هم إلا معاول هدم وتخريب بيد أعداء الأمة quot; وطبعاً تكون المؤسسات المنتهية الصلاحية، قد كونت لها خطاب شعبوي رافعة شعارات الثوابت ( الوطنية والقومية أو الدينية ) بين الناس عبر تاريخ تواجدها. أما المؤسسات الحديثة، والتي لم تظهر إيجابياتها للناس بعد، فتكون الطرف الأضعف في حلبة الصراع الغير متكافئة والمحسومة مسبقاُ لصالح الأقدم والاعرض شعبية.
وهنا عندما يتدخل السياسي العربي، لإدارة الصراع بين مؤسسات دولته القديمة والحديثة باسلوب تكتيكي، فالخاسر عادتاً ما تكون المؤسسات الحديثة. وذلك لكونه يحجم من دورها وفعاليتها من أجل طمأنة روع المؤسسات القديمة والقائمين عليها، وقاعدتها الشعبوية المزعومة. وفي مخططه بأنها مسألة وقت. ولكن في مسألة الوقت هذه، تكون المؤسسات القديمة قد اكتسبت شرعية أكبر وتقنيات دفاعية أسرع وأخطر. وفي المقابل يكون قد تم إفراغ المؤسسات الحديثة من مضمونها التنموي التحديثي والتطويري، وتركها كشكل هزيل، يصيب القائمين عليها بالإحباط والسلبية في الأداء. وتصاب فئات الشعب العريضة والتي لامست مدى تعطيل المؤسسات التقليدية لحياتها وإصابته بالشلل والوقوف ضد طموحاتها المستقبلية بخيبة أمل من أي خطوة تطويرية أو تحديثية مستقبلية ولو كانت ذات صيغة وصبغة إستراتيجية. وكونهم الأغلبية الصامتة، فالحديث باسمهم من قبل المؤسسات التقليدية يستمر إضافة على التعويض عما فقدته بالصراخ والوعيد والتهديد وقذف الاتهامات. وهنا يتم إرباك السياسي وإيهامه بمدى قوتها وشعبيتها، فيتأخر في اتخاذ القرارات الحاسمة تجاهها.
وهكذا يتم قتل إرادة الفعل عند التحديثيين. وتزداد عند التقليديين، وتنفتح شهيتهم لإلتهام كل تحديث جديد قد يطرأ. وتعيده معدهم المترهلة باستمراء هوامش وحواشي الماضوية، بصياغة ممسوخة وفجة، تسمن جماجمهم تكلساً وأشداق كل المتربصين بالدولة ضحكاً واستهزاءاً.
وعندما يشعر المسئولون بدرجة المخاطر المحدقة بدولتهم، ويقرروا اتخاذ خطوات تحديثية وتطويرية إستراتيجية صادقة، يكون الشق قد أتسع على إي رقعة. والزمن لا يسعفهم، حيث السنة من التطور الآن تعادل تطور قرنين من ما مضى. وما تجربة بروسترايكا ميخائيل جورباتشوف الإصلاحية في دولة الإتحاد السوفيتي السابق عنا ببعيدة. حيث كمنت عملية الإصلاح فيها في حتمية تفكيكها وإعادة بنائها بما يتلاءم مع روح ثقافة العصر ومعطياته. وهو الحل المنطقي الوحيد والمتوفر، والبديل عن الفوضى والانهيارات الداخلية والحروب الأهلية أو الغزوات الخارجية.
عبدالرحمن الوابلي
التعليقات