لأسف ما،لم يشر الدكتور علي الوردي إلى تكوينات مدينة الفقراء والفلاحين النازحين،والهاربين من عشائرهم وقراهم وأكواخهم حول محيط بغداد الجنوبي الشرقي والتي سميت أول الأمر بالعاصمة،ثم بمدينة الثورة بعد أن نقلهم قرار الجنرال قاسم إلى شرق بغداد ليبدأ تأسيس محمية بشرية لكنها وحسب الوضع الاجتماعي أصبحت محمية عشائرية قبلية،لها ثقافاتها الخاصة من موسيقى وألحان وأشعار ورقصات وأساليب اجتماعية متفردة في الأعراس والأختان والأموات والنكبات وكذلك طرق التفاهم حول الطبخ والملابس والغسيل والسياسة العامة.

لكن أرحام تلك المدينة تنجب أكثر،وقد غلبت أنعاش الموتى من الجيل المؤسس البائس المنكفئ بأجيالها الحرة المحبة للحياة،فكانت مدينة الثورة..أم الثوار حسب عبد الكريم قاسم والشيوعيين والعمال قبل خمسين عاما،حين كانت روسيا هي الاتحاد السوفيتي،وحين كان حذاء خروتشيف ُيعد على إنه تهديد حقيقي للحياة البشرية،كانت مدينة (الثورة) هي درع الثورة حسب الشيوعيين وأنصارهم،وحقيقة فقد أنتجت المدينة اكثر من مبدع بمختلف الاختصاصات،لكن الثورة لم تستمر،والمدينة كبرت وتوسعت.

زار صدام حسين مدينة الثورة بعد أن حكم العراق عام 1979،فهبت جماهير المدينة تستقبله، فقام أحد المخترعين الوصوليين من أبناء عشائر الثورة وقال من اليوم والسيد الرئيس موجود سوف لن تسمى بمدينة الثورة بل مدينة صدام فهتفت جموع الفقراء تؤيد الاختراع، فعين سمير الشيخلي أمينا للعاصمة و كلفه بمراقبة مدينته (الثورة ) سابقا،فقام الشيخلي ومن كثر إفراطه بحب الرئيس صدام برمي شيوخ ونساء من المدينة في بالوعات مجاري بغداد حبا ً بالنظافة والخدمات التي أمر فيها السيد الرئيس.

في عام 1985كنت مذهولا ً أمام اللافتات السود المعلقة في كل الشوارع وعلى كل البيوت في مدينة (صدام ) الثورة سابقا ً،وهي تنعي الجنود الأبطال جنود القادسية الثانية التي تنتصر على الفرس وممثلهم الجديد الخميني (الدجال)،حتى تيقنت إن كل عائلة قد فقدت واحدا ً منها قريبا أو بعيد ا،وكانت مدينة صدام حقا ً مدينة الدماء في الدفاع عن حكمه المتزعزع أمام الجمهورية الإسلامية الإيرانية آنذاك.

ما أن أسقط الأميركان صدام حتى تحول أسم المدينة إلى أسم آخر هو مدينة الصدر،وهذه حقيقة مشكلة (هوية )،فمثلا هناك من أبناء المدينة تلك قد تم تسجيل ولادته الثورة وآخرين صدام والأولاد الجدد الصدر،وليس لنا أن نعرف ماذا سوف تسمى المدينة بعد القضاء على الصدر وجيش المهدي،وهل لأبناء المدينة وشيوخ عشائرها الحق في تسمية أبدية لمدينتهم تقيهم حقد الحكام الذين سوف يقبلون كما يشاء الله أو القدر.

لم يشر الوردي إلى تلك المدينة،لكنه أشار إلى مخاطر هجرة الريف إلى المدينة،وهذا ما يحصل فعلاقات العشائر متغلغلة أصلا في النفوس والتعاملات، وفي غياب الدولة والقانون تسود علاقات القبائل والعشائر، فكيف الحال إذا كانت الدولة والقانون والعشائر والأميركان متفقون على الهدم،وعلى الحمار أن ينام حتى يتم البدء بالبناء.

واصف شنون