قبل الولوج في هذا الموضوع، الذي يبدو شائكا في نظر بعض الكتاب ويتحاشون الخوض فيه خشية الاتهام بالطائفية أو العنصرية، أو لعدم اطلاعهم الكافي على الأصول العقائدية و الفكرية للتشيع ولهذا أصبح الأمر ملتبسا عليهم في ما إذا كان التشيع دينا أم مذهبا ً، يتطلب الأمر منا أولا أن نلفت انتباه القارئ الكريم إلى الدعوات التي تطلق بين الحين و الآخر بشأن مسألة التقريب بين المذاهب والتي استهوت الكثير من أصحاب النوايا الحسنة والبسطاء من أبناء الأمة الذين تتحكم العواطف بمواقفهم. فلو أمعن هؤلاء الطيبون من الناس النظر في دعوات التقريب بين المذاهب لوجدوا أنها دعوات سياسية بحتة تهدف إلى تحقيق غايات معينة، و أن مطلقيها هم من رجال السلطة و هؤلاء لا يطلقون مثل هذه الدعوات من قناعات أنفسهم و إنما هي تعليمات تصدر إليهم ويقومون بتلبيتها. والدليل على ذلك إننا لم نسمع أياً من علماء الإسلام الكبار و لا من المرجعيات الشيعية البارزة صدور مثل هذه الدعوات التي دائما تأتي على لسان إما موظفين علنيين في دوائر حكومية، و إما من قبل بعض المتلبسين بثياب علماء الدين وهم موظفون بالسر لدى مؤسسات الدولة، و السبب في ذلك أن علماء كلا الطرفين يعرفون حقيقة هذه الدعوات و أهدافها، ويعرفون أيضا أن القواعد التي يتحدث عنها أصحاب دعوة التقريب ويدعون أنها تشكل أرضية مشتركة بين الطرفين، إنما هي بالأساس غير صالحة لتكون أرضية لأي تقارب لان هذه القواعد في الأساس هي جوهر الخلاف وليس كما يتصورها العامة من إنها قاعدة مشتركة بين الفريقين.
من جهة آخر يحاول أصحاب دعوة التقريب تبسيط الخلاف و تصويره على انه مجرد خلاف فقهي وان التشيع هو مذهب كسائر المذاهب الإسلامية الأربعة، الحنفية والمالكية و الشافعية والحنبلية، في ما يرى كبار علماء أهل السنة أن الأمر عكس ذلك فالتشيع ليس مذهبا، فهو من حيث الأصول والفروع دين قائم بذاته وله فرق و مذاهب شتى، و قد صرح الكثير من مراجع الشيعة علانية بهذه الحقيقة، و من بين من صرح بذلك محمد بن علي بن بابويه القمي في كتابه ( الاعتقادات في دين الإمامية ) فهو يسمي التشيع صراحة quot; دين الإمامية quot;، وقد ورد نفس الذكر في كتاب (الاعتقادات - الباب الخامس والثلاثين) للصدوق (توفي سنة 381 هـ ) وفي ( الفهرست: ص189 ) للطوسي، و في كتاب ( الذريعة : 2/226) للآغا بزرك الطهراني، فهم ذكروا نصاً دين الإمامية لا مذهب الإمامية.
و أننا إذا ما قرأنا تعريف المذهب نجد أن هذا المصطلح لا ينطبق على التشيع بدليل إن التشيع بأصوله وفروعه هو أوسع من المذهب.
فما هو تعريف المذهب؟.
بحسب ما جاء في التعاريف المشهورة فان للمذهب تعريفان (لغة)، و ( اصطلاحا ً). وما يهمنا هنا هو التعريف الثاني ( اصطلاحا ). فالمذهب في اصطلاح الفقهاء هو: ما استنبطه المجتهد من الأحكام الشرعية الاجتهادية المستفادة من الأدلة الظنية. وهم بهذا الاصطلاح قد نقلوا المعنى اللغوي للفظ المذهب إلى هذا المعنى الاصطلاحي وصار حقيقة عرفية عندهم. فيقولون مثلا: مذهب الإمام مالك رحمه الله لا يوجب التكتف في الصلاة. أو سنية الجهر بالبسملة في الصلاة الجهرية في مذهب الإمام الشافعي رحمه الله.
وقد قال العلامة ابن حجر الهيثمي رحمه الله فيquot; تحفة المحتاجquot; ( 1/39): وأصله - يعني المذهب- مكان الذهاب ثم استعير لما يذهب إليه من الأحكام تشبيها للمعقول بالمحسوس ثم غلب على الراجح ومنه قولهم المذهب في المسألة كذا ) أي الراجح فيها في المذهب كذا.
و بهذا التعريف نرى أن المذاهب الإسلامية الأربعة هي مذاهب فقهية تختلف فيما بينها بالاجتهاد في المسائل الفرعية بينما التشيع مذهب عقائدي يختلف مع المذاهب الإسلامية بالأصول والفروع معاً.
ووفق هذا التعريف أيضا يصبح كل مرجع شيعي صاحب مذهب، فمثلا للخميني الذي يرى وجوب ولاية الفقيه المطلقة مذهباً يختلف عن مذهب محسن الحكيم و الخوئي اللذين يعارضان الخميني في هذه المسألة أو غيرها من المسائل المتعلق بالعبادات، كعدم وجوب صلاة الجمعة في زمان غيبة الإمام المعصوم، أو الاختلاف في حدود المسافات التي توجب إفطار الصائم، أو جواز التلذذ الجنسي بالرضيعة، أو ما إلى ذلك من مسائل فقهية أخرى.
فبعد أن أصبح واضحا نفي صفة المذهب عن دين الأمامية ( التشيع ) حري بالباحث و القارئ أن يتعرف على الأصول، التي وصفها أصحاب الدعوة السياسية للتقريب بين المذاهب، بالمشتركة و إذا ما كانت فعلا هي كذلك أم أنها مجرد خدعة يريد أصحاب الدعوة، واغلبهم من الإمامية، تحقيق غايتهم ( إقناع المسلمين بان التشيع مذهب ثم بعد ذلك يتم اختراق المجتمعات العربية والإسلامية إيرانياً من خلال الترويج لمذهب التشيع )، تحت غطاء هذه التسمية التي يطلقون عليه quot; الأصول العقائدية المشتركة quot; بين السنة والشيعة.
لقد اجمع المسلمون، أشاعرة و حنابلة، على أن الأصول العقائدية هي ثلاثة : التوحيد، النبوة، المعاد، أي الإيمان باللّه و ملائكته و كتبه ورسله واليوم الآخر.
والتوحيد العلمي الاعتقادي عند المسلمين هو: الأصل في أسماء الله وصفاته : إثبات ما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تمثيل، ولا تكييف، ونفي ما نفاه الله عن نفسه، أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف ولا تعطيل كما قال تعالى ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾.
أما الإمامية فعقائدهم خمسة و هي: التوحيد والعدل والنبوة والإمامة و المعاد.
وقد ربط الامامية بين مقام الإمامة ومقام النبوة لاعتقادهم بالعصمة المطلقة للإمام، ويعتقدون أن الإمامة هي مقتضى النبوة، و الدليل على النبوة هو الدليل على الإمامة.
وفيما يخص التوحيد عندهم فإنهم يقولون : إن صفات الله عين ذاته، فليس هناك علم زائد على الذات، بل العلم هو عين الذات، وليس هناك إرادة زائدة على الذات، بل هناك ذات مريدة بإنيتها، بل أكثر من ذلك، الله يعلم من حيث يريد، ويريد من حيث يعلم، فالله ليس ذاتاً وصفاتاً، بل ذات صرف، إنه صرف الوجود. فهو ذات في غاية الشفافية. و بالتالي، لا لون، ولا طعم، ولا حجم، ولا وزن.
أما مصادر التشريع المتفق عليها عند جمهور الأمة فهي: القرآن الموجود بين دفتي المصحف من دون زيادة أو نقصان، والسنة النبوية الشريفة والإجماع.، والإجماع يأتي في المرتبة الثالثة من حيث الرجوع إليه، حيث إذا لم يتم العثور على حكم ما في القرآن، ولا في السنة، ينظر إذا كان أجمع علماء المسلمين عليه، فإن وجد ذلك أخذ و عُمل به.
أما مصادر التشريع عند الامامية فهي أربعة : القرآن، السنة، العقل، والإجماع.
فأما العقل فعندهم انه حجة على الخلق لكون الكتاب والسنة يحملان أوجه ولم يتمكنا من رفع الخلاف بين الأمة. و أما الإجماع، فهو اتفاق آراء الفقهاء في مسألة شرعية و الكاشف عن الدليل الشرعي وهو دليل على الحكم الشرعي وليس كاشفاً عنه.
أم السنة فان الطريق الحصري إلى معرفتها أو أثباتها قولا وتقريرا عن الرسول صلى الله عليه وسلم، هم الأئمة المعصومين،في حين يكون الرواة الثقات طريقًا لإثبات سنة الأئمة.
و من خلال هذه المقارنة ربما يعتقد البعض أن المسافة ليس بعيدة بين الطرفين إذا ما أخذنا بالقرآن والسنة النبوية الشريفة باعتبارهما يشكلان نقطة ارتكاز مشترك في التشريع لدى الطرفين. ولكن سوف يتبن حجم الخلاف حين نرى أن مراجع الامامية يطعنون في سلامة مصدر التشريع الأول، وهو القرآن الكريم،. علما أن طوال القرون الأربعة عشر الماضية لم تراود فكرة التحريف، زيادة أو نقصانا، ذهن أحد من المسلمين ماعدا مراجع الإمامية فهم وحدهم من قال بتحريف القرآن.
الأدلة على قول الامامية بتحريف القرآن.
ذهب العديد من مراجع الامامية، المتقدمين منهم والمتأخرين، بالقول بتحريف القرآن، وأول من قال بذلك من مراجعهم الكبار هو: محمد بن يعقوب بن إسحاق الكليني ( ت 329 هـ )، احد أصحاب الكتب الأربعة،( الكافي للكليني، ومن لا يحضره الفقيه للصدوق، والتهذيب والاستبصار للطوسي) المكون الرئيسي لدين الامامية، أصولا وفقها. و يعتبر كتاب (الكافي) أكثرها اعتماداً وتوثيقاً : واتفق مراجع الامامية على جعله أصح كتابهم. فهو يتكون من ثماني مجلدات: اثنان في الأصول، وخمسة في الفروع، و مجلد واحد يسمى بـ (الروضة). ويعتقد بعض مشايخهم أنه عرض على المهدي المنتظر فاستحسنـه وقال: الكافي كافٍ لشيعتنا. ( منتهى المقال ص25 ).
وقد ذكر الكليني في كتاب الكافي : عن أبي عبد الله (ع ) quot; جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما جميعا quot; قال: إن القرآن الذي جاء به جبريل (ع) إلى محمد (ص) سبعة عشر ألف آية. ( أصول الكافي ج 2 ص634 ).
و في رواية أخرى: عن سالم بن سلمه قال: قرأ رجل على أبي عبد الله (ع) وأنا استمع حروفاً من القرآن ليس على ما يقرأها الناس فقال أبو عبد الله (ع): كف عن هذه القراءة. اقرأ كما يقرأ الناس حتى يقوم القائم فإذا قام القائم قرأ كتاب الله عز وجل على حده. و أخرج المصحف الذي كتبه علي (ع) وقال: أخرجه علي (ع) إلى الناس حين فرغ منه وكتبه فقال لهم: هذا كتاب الله عز وجل أنزله الله على محمد (ص) وقد جمعته من اللوحين. فقالوا: هو ذا عندنا مصحف جامع فيه القرآن لا حاجة لنا فيه. فقال: أما والله ما ترونه بعد يومكم هذا أبداً إنما كان عليّ أن أخبركم حين جمعته لتقرأوه ( أصول الكافي ج ص633).
وفي تحريف الآيات فقد ذكر الكليني مانصه : عن أبي عبد الله (ع) قال: نزل جبريل (ع) على محمد (ص) بهذه الآية هكذا: ( يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا في علي نوراً مبيناً ) ( أصول الكافي ج1 ص417).
و عن أبي عبد الله (ع) قال: ( وإذا المـوؤدة سئلت بأي ذنب قتلت). يقول: أسألكم عن المودة التي نزلت عليكم مودةِ القربى بـأي ذنب قتلتموهم؟ ( صول الكافي ج1 ص295 ).
فهو هنا حرف كلمة (وإذا الموؤدة) التي في سورة التكوير الآية /8، إلى كلمة المودة، أي مودة آل البيت. علماً أن هناك العشرات مثل هذه التحريفات التي أدعى بها الكليني في كتاب الكافي.
أما مراجع الامامية الآخرين الذين قالوا بتحريف القرآن فهم.
1- الشيخ حسين النوري الطبرسي صاحب كتاب : (فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب) جمع فيه أكثر من ألفي رواية تنص على التحريف، وجمع فيه أقوال جميع الفقهاء ومراجع الشيعة في التصريح بتحريف القرآن الموجود اليوم بين أيدي المسلمين، حيث أثبت أن جميع علماء الشيعة وفقهاءهم المتقدمين منهم والمتأخرين يقولون : إن هذا القرآن الموجود اليوم بين أيدي المسلمين مُحَرَّف. وقد ذكر في الباب الأول: بعنوان: quot; الأدلة على وقوع التغيير والنقصان في القرآنquot;. اثني عشر دليلا يستدل بها على تحريف القرآن حسب زعمه. و قد أورد تحت كل دليل من هذه الأدلة حشداً من الروايات المختلقة و التي استدل بها تحريف القرآن.
2- نعمة الله الجزائري : صاحب كتاب (الأنوار النعمانية ) فقد روى في ج 1 ص 97 : إن الصحابة بعد النبي قد غيروا وبدلوا في الدين. و قد ضرب لذلك مثلا قائلا: quot; أن الصحابة قاموا بتغيير القرآن وتحريف كلماته وحذفوا ما فيه من مدائح آل الرسول، وفضائح المنافقين، وإظهار مساوئهُمquot; على حد تعبيره.
3- محمد باقر المجلسي، في كتابه (بحار الأنوار المجلد 89) ذكر عدة أبواب وكل باب فيه عددا من ما ادعى أنها ادالة على التحريف في جمع القرآن: ففي (المجلد 89 الذي خصصه للقرآن، ص 40ـ ص 60) باب بعنوان: quot; ما جاء في كيفية جمع القرآن وما يدلّ على تغييره quot;. وزعم أن هناك (74 وجها ) من أوجه التغيير في القرآن.
و في نفس المجلد ( 89 ص 66 ـ 77) باب بعنوان quot; تأليف القرآن، وأنه على غير ما أنزله الله عزوجلquot; وذكر فيه (20 مثلا) يعدها أدلة قاطعة على ما يزعم quot;.
وليت شعري، فما الفرق بين كتاب الآيات الشيطانية للمرتد سلمان رشدي وهذه الكتب الضالة التي تطعن في القرآن الكريم الذي قال تعالى عنه : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون. فهل عجز الله ( جل وعلا) عن حماية القرآن من التحريف حتى يأتي هؤلاء الملالي ليظهروا لنا حرصهم وحرقتهم على ما أصاب القرآن من نقص وتحريف، والعياذ بالله؟. فأي مسلم هذا الذي يشكك بأقدس مقدساته و أول واهم مصادر تشريعه وهو القرآن الكريم الذي يعد المعجزة الخالدة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
إذن بعد هذا الذي تقدم هل يصح وصف دين الإمامية (بالمذهب ) و وضعه إلى جانب المذاهب الإسلامية، المتفقة على وحدة الأصول والفروع، و التي لا يتجاوز الخلاف القائم بينها سوى في الاجتهاد في بعض المسائل الفقهية فقط؟.
وهنا يخطر في بال الباحث تساؤل: إذا كان لابد من التقريب فلماذا لا يطرح الموضوع ضمن دائرة حوار الأديان مادام أن القوم قد صنفوا عقائدهم ضمن الأديان quot; دين الإمامية quot; وليس المذاهب و بذلك يكون الأمر أكثر واقعية و تقبلا، خصوصا وأن هناك مؤتمرات وندوات تعقد بين فترة و أخرى تحت عنوان حوار الأديان.
الأمر الأخر وهو كيف يمكن أن نصدق حسن نوايا أصحابة دعوة التقريب بين المذاهب وهما يقومون يوميا بإعمال تزيد من العداوة والبغضاء وتزيد من اشتعال نيران الفتن الطائفية التي أشعلوها في العراق ولبنان و أفغانستان ومؤخرا في فلسطين و في بعض بلدان الخليج العربي وغيرها من البلدان الأخرى.
ثم كيف لنا أن نصدق دعواهم هذه و لحد الآن تخلو مدينة طهران quot;إحدى كبريات العواصم العالمية quot; من مسجد واحد لأتباع المذاهب الإسلامية، ويتعرض أهل السنة والجماعة في إيران إلى أبشع صنوف القهر والإذلال، ويتعرض علماؤهم إلى عمليات السجن والاغتيال والإعدام.
هذه الأسئلة نطرحها على الذين استهوتهم دعوة التقريب، قبل طرحها على أصحاب الدعوة أنفسهم والذين أفسدت أعمالهم حسن نواياهم.
صباح الموسوي
مركز دراسات النهضة الاحوازية للثقافة والإعلام
التعليقات