هل يمكن مصالحة العلم مع الدين؟ وهل يمكن التوفيق بين الإيمان بالغيب والعقلانية المادية؟ هنالك رؤيتان متناقضتان في الظاهر للوجود، الأولى: ميتافيزيقية، ماورائية غيبية، والثانية مادية، عقلانية، علمية، والصراع بينهما، وعلى مر العصور كان متأججاً وحاداً وعنيفاً، ومناسبة لصراعات وحروب طاحنة، وعلى الأخص في العصر الحديث، من غاليله إلى داروين. وهذا التساؤل يمتد من النظرية الوضعية الهجومية للقرن التاسع عشر والقرن العشرين إلى السجالات والنقاشات الدائرة حالياً في مطلع القرن الواحد والعشرين حول تحديد النسل والاستنساخ والهندسة الوراثية والتلاعب بالجينات واكتشاف الكون والرحلات الفضائية، حيث يحاول العلماء ورجال الدين، كل من جهته، رسم الحدود الفاصلة بينهما.


ومن حيث المبدأ والمنهج والفهم والاستدلال والتجربة الحسية والمادية الملموسة والمختبرية، يرفض العلم أي تفسير للعالم والوجود باللجوء إلى قوة غيبية ماورائية وميتافيزيقية لايمكنه إثبات وجودها عملياً. ولكن هل بإمكان العلم نفي وجود الله بالبراهين العلمية؟ الجواب ليس بديهياً ولا سهلاً. فالحاجة للعثور على معنى لحيواتنا، وبسبب النتائج المدمرة أحياناً للتقدم العلمي والتكنولوجي، يفتحان الطريق للأديان بالولوج إلى نفوسنا ووجداننا وعقولنا، وفي أحيان أخرى يفسحان المجال للتفكير الأصولي المتزمت والمتطرف بالسيطرة على أذهاننا وفهمنا وإدراكنا للأشياء ويجعلنا نتقبل الطقوس البدائية الساذجة والتفسيرات التي تقدمها الأديان والخرافات والأساطير التي يزدحم بها تاريخ الإنسانية كأنها بديهيات حقيقية حدثت بالفعل في التاريخ البشري، في مقابل النظرة العلمية الباردة لهذا الكون اللامتناهي الأبعاد، والسر الغامض والأبدي الذي يغلف أصل الحياة وتطورها.


الأديان تؤكد على حقيقة شمولية، أبدية وأزلية ثابتة لاتتغير وتشمل كافة نواحي الوجود من الطبيعة إلى الإنسان، مروراً بقوانين الكون وقصة خلقه ومصيره.فيما يقترح العلم سيناريو نسبي وجزئي ومؤقت وافتراضي ونظري قابل للتطوير والتغيير دوماً، لايمثل فيه الإنسان سوى عنصراً ضئيلاً من عناصر الطبيعة، الذي هو إحدى نتاجاتها، أي هو جزء من الطبيعة والمادة وله نفس المكونات والعناصر التكوينية التي لباقي عناصر الطبيعة من حجر وشجر وثمر وحيوان وماء وغاز وصخر وتراب وغير ذلك.
وإلى جانب طموحهما بتقديم قراءة متناسقة ومقبولة عن العالم الحسي، يشغل العلم والدين نفس الفضاء المتمثل بالفكر البشري. ولذلك لانستغرب إذا ما نشأت بين الرؤيتين منافسة شرسة، وصراع يكون في أغلب الأحيان عنيفاً. وكانت الغلبة، لعدة قرون خلت، للأديان السماوية على العلم. مقدمة للإنسان حقيقة لاتقبل المناقشة أو الدحض أو الرد أو النقد ولايحق لأحد رفضها أو عدم الاعتقاد بها، واليوم نشعر بأن العكس هو السائد وأن الغلبة للعلم الذي بات يشغل مركز العالم ولب التفكير الإنساني المعاصر ويحتل موقعاً متميزاً في صيرورة الحضارات الحديثة.


العصر الذي نعيش فيه اليوم هو عصر العلم بامتياز ولم يكن العلم قوياً من قبل كما هو علية الآن. وبرغم ذلك فهو عرضة للاستفزاز والنقد والاتهام وسبباً لكل المعاناة النفسية والمعنوية التي يتعرض لها الإنسان المعاصر من شك وحيرة وضياع وقلق وفقدان للمعايير والضوابط الأخلاقية. لقد ساعد العلم الإنسان في التحرر من العمل العبودي لكنه عاجز عن إدارة هذه العملية والتحكم بها. فكوكب الأرض الذي فتحه الإنسان واستكشفه وسبر أغواره وأسراره هو اليوم مهدد من قبل هذا الإنسان وعرضة للتدمير والفناء على يديه. لقد أزاح العلم قدسية الأحداث والأشخاص في تاريخ البشرية، بيد أنه، وفي نفس الوقت جرده من المعنى، وأصبح تطور الكون عبثياً لاغاية له ولامعنى في حد ذاته، كي يمكن للإنسان المعاصر أن يستوعبه.


تقهقر الدين في العقود الأولى للقرن العشرين وطغى التفكير العلمي والانجازات العلمية وغزو الفضاء على أذهان الناس وأذواقهم، بيد أن الدين استعاد المبادرة وزادت الممارسات العقيدية في العقدين الأخيرين من القرن المنصرم وساد ما سمي بالصحوة الدينية وكانت النزعة الأصولية السلفية التقليدية الأورثوذوكسية هي التي فرضت نفسها على العقول بالقوة أحياناً، وسحق منجزات العلم وتسفيهها أو التشكيك بصدقيتها ومصادرة حربة التفكير والاعتقاد والاختيار في كثير من الأحيان الأخرى. وظهرت طرق ومدارس وطوائف دينية متنوعة Sectes في جميع الأديان السماوية منها من أدرج في برامجه وأيديولوجيته بعض quot; العلوم الكاذبة quot; اتسمت بالغرابة والماورائية والباطنية eacute;soteacute;riques وكان البعض الآخر منها مصدر خطر على معتقدات الناس الضعفاء أو الباحثين عن حقيقة ضائعة وأمل بعيد المنال، ككنيسة السيونتولوجي scientologie. وبالتالي اكتسحت الأديان والمعتقدات الشرقية كالصوفية والبهائية والبوذية وغيرها الأرض الغربية لأن معتقداتها Doctrines التطبيقية والعملية وشعائرها لاتصطدم مع العقلانية والروح العلمية بشكل عنيف.ومن هذا المنطلق ظهر نوعان من الآلهة، الأول مختص بالأديان وإفراز لها ومصدر لشرعيتها، والثاني مختص بالعلوم والأكوان ولايتعدى كونه طرف افتراضي في معدلات رياضية كونية لابد من طرحه عندما نصل إلى طريق مسدودة فيما يتعلق بأصل الأفعال والقوانين الكونية.


وبالمقابل يعتقد الماديون والملاحدة أن الأديان السماوية الثلاثة، التي تهيمن عليها فكرة الموت والبعث والآخرة والعقاب والثواب، تشترك في مشترك واحد هو احتقار العقل والذكاء وحرية التفكير والجنس والرغبة والمتعة وتقزيم كافة الكتب وتحقيرها من أجل كتاب واحد شامل وكامل هو الكتاب المقدس المنزل من السماء والناطق بلسان الرب. كما تشترك في الطاعة العمياء لكائن خرافي غير مرئي جبار ومنتقم ورحيم وعادل في آن واحد لاسبيل لإثبات وجوده بالطرق العلمية والمختبرية قد يكون من ابتكاراتها واختلاقها كما تقول بعض النظريات السوسيولوجية الحديثة. أو كما قال الفيلسوف الألماني نيتشه:quot; أن مفهوم الله قد تم اختلاقه كمعادل أو مضادة لأطروحة الحياة quot;، ولذلك أعلن منتشياً quot; لقد مات اللهquot;. وليس صدفة خروج الأديان السماوية الثلاثة من نفس المنطقة ومن صلب الصحراء العربية من مدن الرمال والعطش كمكة والمدينة والقدس وبيت لحم والناصرة حيث تعيش القبائل في حالة من التقشف والحرمان تحلم بالفراديس والمياه الوفيرة الباردة والمنعشة والهواء المعطر بديلا عن غبار الصحراء وأنهر الحليب واللبن والخمرة والحوريات الجميلات وأسرة الحرير والحدائق الغناء، وهي الأشياء التي وعدهم بها الأنبياء الثلاثة موسى وعيسى ومحمد.
ولكن قبل التمتع بهذه الامتيازات الأبدية ينبغي على البشر تقديم كشوفات بأعمالهم يوم الحساب العظيم ومن لم يفز وتكون حسناته أكثر من سيئاته، وهم نادرون بالطبع، فالمصير سيكون الجحيم الأبدي بلا أدنى شك. وتعود المسألة الأزلية للطرح مرة أخرى بشأن مسؤولية الإنسان عن أفعاله وهل مصيره مكتوب عليه منذ الأزل ويخضع للقضاء والقدر الذي أوجده الله خالق كل شيء بما فيه الخير والشر؟
وفي هذا السياق تندرج قصة الصراع بين العلم والدين، بين الله خالق الكون وبين الكون الذي أوحى بفكرة الله في رؤوس البشر.


عندما تمرد العلم على الدين

في 22 حزيران 1633، أقتيد العالم الشهير غاليليو غاليله، الذي كان يبلغ من العمر تسعة وستون عاماً، بجلبابه الأبيض كمتهم بالهرطقة والخروج على نصوص ونظريات الدين المسيحي وتعاليم الكنيسة الكاثوليكية، في أسوء فترة في تاريخ المسيحية وهي فترة محاكم التفتيش،أمام محكمة للاستماع إلى الحكم الصادر بحقه بموافقة صديقه السابق البابا يوربان الثامن وبدون حق المناقشة والرد والدفاع عن النفس بل الاعتراف بالذنب والقبول بالحكم صاغراً في روما مقر البابوية، بعد اعتقاله وسجنه لمدة ستة أشهر قبل نطق الحكم ضده. أمرته المحكمة بالتوبة والتراجع عن أفكاره ونظرياته العلمية الثورية في الكون والتنكر لها والعودة إلى نصوص الكتاب المقدس في عهديه القديم والجديد بخصوص هذه المسألة.


وقد منع من مقابلة البابا الذي كان صديقه المقرب وكذلك منع من مقابلة أي كاردينال وحرم من أي اتصال بزملائه وأصدقائه الأعزاء. وقد ذهبت مطالبه أدراج الرياح عندما أصر في بداية سجنه على فتح حوارات ومناقشات ومقابلة الحجج بالبراهين والأدلة العقلية والعلمية لكنه جهده كان بلا طائل وبقي يجهل ما يحاك ضده في الخفاء وما سيكون عليه مصيره. لم يلتق غاليله بالقضاة إلا في 22 حزيران ولم يقدم إلى محاكمة عادلة ولم يتمكن من إقناع أحد أو عرض أفكاره ودفاعه عن نفسه وإبراز ذكائه وعبقريته التي سبق أن أذهلت المحيطين به منذ أكثر من ثلاثين عاماً.


وهكذا أجبر هذا العقل الفذ والفكر النافذ والمتحرر، على الخضوع والانصياع للسلطة الظلامية المتخلفة والتراجع عن اكتشافه العلمي الكوني الهائل عن كروية الأرض ودورانها حول الشمس وعدم كونها مركزاً للوجود.
لم يكن أمامه أي خيار سوى الخضوع أو الموت البشع حيث يحرق حياً على محرقة الصليب علناً أمام الأتباع المنتشين والأعداء المتشمتين والخصوم المنتقمين. فخضع خوفاً على حياته وداس على كرامته وعنفوانه وهيبته وشخصيته التي هيمنت على إيطاليا الثقافية طيلة ثلاث عقود، وخرج من هذا الاختبار محطم المعنويات وخائر القوى مستسلماً لقدره وكانت معركة فاصلة خسر فيها العلم الجولة لصالح الدين.

بقي حراس الكنيسة، الكرادلة وعلى رأسهم الباب، يتربصون بأي زنديق أو متمرد على النصوص المقدسة ويحاربون أي خروج على التعاليم الإلهية ويعدونه انحرافاً يستحق القتل.
وعلى إثر القراءة التي قام بها إبن رشد وتبناها توما الاكويني، فرض آرسطو كمعلم ومرجع علمي وفلسفي من قبل سادة الكنيسة لسنوات طويلة إلا أن هذا quot; التسامح النسبيquot; من جانب الكنيسة تجاه الفكر الفلسفي العقلي قد انتفى وتوقف بفعل حدثين مهمين هما اختراع المطبعة وعملية الإصلاح الكنسي.
فاختراع المطبعة سنة 1440 قد أثار قلق الكنيسة لأن بث المعرفة والعلوم المدونة كان محدوداً جداً وتحت السيطرة التامة للكنيسة قبل المطبعة والآن وبعد هذا الاختراع العظيم لم يعد الأمر كذلك. وبعد مرحلة غوتنبرغ مخترع المطبعة أصبحت السيرة مستحيلة إذ دخل الكتاب في ميدان التجارة والتداول العام والجماهيري. وانكسر احتكار رجال الدين للمعرفة وبات ممكناً دراسة النصوص في مصادرها الأصلية وكذلك النصوص الفلسفية الإغريقية وتفسيراتها من قبل طبقة جديدة من الانتلجانسيا دون الحاجة إلى وساطة الكنيسة بين الله والشعب.


كان الفعل الحاسم الثاني ضد سلطة الكنيسة هو عملية الإصلاح الكنسي الذي قاده المصلح مارتن لوثر وطرده من الكنيسة سنة 1520 وبتشجيع من ملك فرنسا الكاثوليكي لأسباب سياسية بحتة. وانتشر الإصلاح في ألمانيا كالهشيم في العاصفة داخل بلد منقسم على نفسه والسلطة السياسية فيه ضعيفة، فشنت الكنيسة الكاثوليكية حربها الأيديولوجية والثيولوجية والاقتصادية ضد رواد الإصلاح فانشقت الكنيسة إلى كنيستين كاثوليكية وبروتستانتية.


في هذه الأجواء وعلى هذه الخلفية دارت قضية غاليله وتطورت ثقافياً وفكرياً. فلم يكن غاليليو غاليله عبقرياً منعزلاً لايفهمه أحد ورهينة لعالم جاهل وبربري، بل كان مثقفاً موسوعياً وأستاذاً يعيش في نهاية القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر في مرحلة غنية بالعطاءات والكفاءات والمواهب والشخصيات القوية التي تركت بصماتها على التاريخ. فمعاصرو غاليله معروفون من أمثال تيكو براههTycho Braheacute; ويوهان كبلر Hohannes Kepler وجيوردانو برونو Giordano Bruno ورينيه ديكارت Reneacute; Descartes وباروش سبينوزا Baruch Spinoza وفرانسيس بيكون Francis Bacon وغاسندي Gassendi وبليز باسكال Blaise Pacal وغيرهم من العقول النيرة والمتألقة التي خلد ذكراها التاريخ المعاصر والمنصف لهؤلاء الرواد في مجال العلم والاكتشافات العلمية الجريئة.


لم يكن غاليليو غاليله هو مكتشف المنهج التجريبي ولم يكن الأول الذي أجرى تجربة السقوط الحر للأجسام ولم يكن أول من صنع المنظار الفلكي أو التلسكوب، إلا أنه الوحيد في هذه المجالات من تجرأ على الذهاب إلى ابعد الحدود الممكنة وكان الأكثر صرامة والأكثر اتقاناً وقدرة وقابلية على التجديد والابتكار والأكثر أصالة. وكان مبدعاً في حقلين مهمين هما الميكانيك والفلك.
كان أرسطو يعتقد أن القوة هي التي تخلق الحركة بينما أثبت غاليليو أنها مرتبطة بالسرعة. وهو الذي اثبت بالتجربة العملية أن الجسم الساقط من أعلى برج يتسارع أثناء سقوطه وغير ذلك من الأمثلة التي ساهمت في شهرته كعالم.


كانت بداية التغيير في التفكير الكنسي عندما اصطدم بإرادة رواد تمردوا على المسلمات الدينية الكنسية، وبات على رجال الكنيسة التعامل مع أفكار ونظريات تجديدية وإيجاد الردود المقنعة عليها على أن تكون مستلهمة من النصوص المقدسة ولا تتعارض مع بديهياتها، كبديهية مركزية الأرض للكون وسطحيتها.جاءت أولى معالم الثورة على الموروث المقدس على يد نيكولا كوبيرنيكوس المثقف البولوني المتنور والجريء الذي التصق الثورة الفكرية والعلمية بإسمه وسميت في حوليات التاريخ العلمي بالثورة الكوبرنيكية. والذي كان يعيش في وسط رجال الدين بعد ثلاثة عشر قرناً من عصر آريستارك الفيلسوف العالم. تجرأ كوبرنيكوس على وضع الشمس وسط نظام شمسي عادي لايختلف عن غيره من مليارات الأنظمة الشمسية الأخرى والأرض تدور دورة مزدوجة على نفسها وحول الشمس. والواقع أن التفكير الكوبرنيكي ليس جديداً وليس من بنات أفكاره هو بل كان النموذج الأول لهذا النظام قد صاغه الفيلسوف آريستارك قبل 13 قرناً من الزمن قبل تاريخ ظهور النظرية الكوبرنيكية. وكان كوبرنيك كما يشاع اسمه مختصراً حذرا من عدم استثارة رجال الكنيسة ضد وعدم استفزازهم بلا جدوى. بل على العكس كان يرغب بالحصول على تأييدهم ودعمهم وحمايتهم له ومن بينهم أصدقاء كثيرون له. ولم ينشر صفوة أفكاره وجوهرة كتبه إلا في عام وفاته وكان الفضل الذي أسداه كوبرنيك هو إلهامه للثوريين من بعده أفكاراً ثورية تغييرية من أمثال جيوردانو برونو وكبلر وغاليليو. البطل الحقيقي للثورة الكوبرنيكية هو يوهانس كبلر فمن وجهة النظر العلمية البحتة يظل أثر كبلر هو الحاسم والمؤسس لعلم الفلك الحديث وربما لمجمل الثورة العلمية الحديثة في مجال الفيزياء والفلك والفضاء والكونيات. وكان النظام الشمسي الذي صممه دقيقاً وواضحاً وقابلاً للتطور ويحدث قطيعة مع كل ما سبقه من أفكار وتصورات. حيث رسخ حقيقة أن الكواكب تدور في فلك الشمس وأن حركتها ليست متجانسة ومتشابهة لا في الشكل ولا في السرعة، فعندما تقترب الكواكب من الشمس تزداد سرعاتها وعندما تبتعد عن الشمس تتباطأ سرعاتها. وأن الزمن يتنوع كلما اقتربت الكواكب من الشمس أو ابتعدت عنها وأن الأرض تدور حول نفسها في يوم واحد وهو ليس نفس الزمن ولا نفس اليوم في الكواكب الأخرى. وقد توصل إلى كل ذلك بالملاحظة والمراقبة بالعين المجردة من على الأرض وبلا أجهزة أو معدات تكنولوجية متطورة وبحسابات رياضية تمت باليد وليس بالكومبيوتر.


عندما انتشر فيروس quot; كروية الأرضquot; داخت الكنيسة الكاثوليكية دب في أوصالها الاضطراب والقلق من فقدان هيمنتها الفكرية على الأتباع. وكان من حمل لواء التبشير بكروية الأرض هما غاليليو الذي عرفنا مصيره ونهاية حربه مع الكنيسة ومحاكم التفتيش التي انتهت بانهياره واستسلامه وتراجعه عن أفكاره وتوبته المهينة. والثاني هو البطل الشهيد جيوردانو برونو الذي يحتل موقعاً فريداً في خارطة وتاريخ العلم الحديث. فهو لم يكن عالم بل مفكر وفيلسوف. ولم يطور منهجية ولانظرية علمية محددة ودقيقة بل بنى أثره العلمي وأفكاره على الحدس والمعرفة الموسوعية الثرية والمتنوعة والتفكير العقلاني. كان مسيحياً دومينيكانياً يدرس في الكوليج دو فرانس وأكسفورد ومحمياً من قبل ملك فرنسا هنري الثالث ومللكة بريطانيا آليزابيت الأولى. وكان أول من كشف عن خطأ أرسطو ولاحظ قبل غاليليو أننا عندما نرمي في الهواء جسماً من على متن قارب متحرك فإن الشيء يسقط على القارب وليس خلفه وبالتالي فهو يدحض فكرة أرسطو القائلة بأن الأرض ثابتة وليست متحركة. وقد تبنى معتقدات وأفكار ونظريات كوبرنيك وقال بكروية الأرض وانها ليست مركزاً للوجود وأنها كوكب صغير وتافه وتدور حول نفسها في يوم واحد وتدور حول الشمس كباقي الكواكب الأخرى، وأعلن أنه يوجد في الكون مليارات النجوم ومليارات الأنظمة الشمسية وأن الكون حسب رأيه هائل ولانهائي وثبت آرائه في مؤلفات وحوارات ومسرحيات ومحاضرات زعزعت كل مسلمات الكنيسة الكاثوليكية. كانت معركته مع السلطات الدينية المسيحية رهيبة وقد أدينت مؤلفاته وأفكاره من قبل البروتيستانت الكالفينيين في جنيف التي هرب منها،ومن قبل اللوثريين في ألمانيا، ومن قبل الانجليكان، وبالطبع من قبل الكاثوليك والكنيسة الكاثوليكية التي حاربته بلا هوادة. وقد جابه مهاجميه بشجاعة منقطعة النظير. فعندما أتهمه المحققون معه بجرم القول بلانهائية الكون على غرار الماديين والملاحدة رد عليهم:quot; وبأي حق تريدون تحديد مملكة الرب؟quot;.وعندما قررت محاكم التفتيش السيئة الصيت معاقبته في 16 تموز 1600 أحرقته حياً في روما بالرغم من تأكيده على إيمانه بالله وبوجود الخالق إلا أنه رفض الاعتراف بنظرية مركزية الأرض للعالم. وقد أظهرت مغامرات غاليليو وبرونو راديكالية وتطرف التباين والاختلاف بين الكنيسة وأطروحة كروية الأرض.


ثم جاء دور اسحق نيوتن الذي ولد في نفس العام الذي توفي فيه غاليليوغاليليه. ترسخت فكرة كروية الأرض تدريجياً في أوساط البروتيستانت أولاً ثم تبناها بعض الكاثوليك مثل ديكارت وباسكال. وفي عام 1660 تبنى أغلب العلماء الموهوبين وأيدو نظرية كروية الأرض في حين منعت الكنيسة الكاثولكية وحرمت قراءة مؤلفات ديكارت وباسكال. وفي هذه الأجواء قدم نيوتن دفعاً جديداً في مجال الميكانيك السماوي.بعد التأكيد على كروية الأرض حيث quot; اختلقquot; أو بالأحرى اكتشف قوة الجاذبية التي تعمل على مسافة بين المكونات الأرضية والفضائية وتختلف قوة الجاذبية حسب كتلة كل جسم والمسافة بين الجسمين. وشرح نيوتن رياضياً حركة الكواكب وتجاذبها بدقة كدقة الساعة ولذلك سماها الساعة الكواكبية وبذلك نشأ نظام نيوتن الكوني الذي لم يلق تقبلاً وحماسة من جانب السلطات الكنسية والدينية رغم إشارته إلى يد الله الصانعة والمصممة لهذه الدقة الكونية والنظام الكوني المنظم. وقد حاربه الكاثوليك لاسيما في فرنسا. بينما دافع عنه المفكر والفيلسوف الفرنسي فولتير. وفي ألمانيا حارب المفكر والفيلسوف ليبنز أفكار نيوتن لأنه كان يطمح ايضاً بالجمع والتوفيق بين الفكر العلمي والفكر الديني والتوحيد بين الرؤية البروتيستانتية والرؤية الكاثوليكية لهذا التحدي فهو يرى الله مهندساً دقيقاً وأن هارمونية وتناسق السماء يدل على وجود الله الخالق لها. وهكذا انتشرت الفكرة العلمية للكون على حساب الفكرة الدينية المسيحية واليهودية وشاع أن الشمس ليست سوى نجم متوسط وعادي جداً كمثيلاته من مليارات المليارات من النجوم وهو لا يحتل مركز مجرة درب التبانة بل على أطرافها وهذه المجرة بدورها ليست سوى واحدة من مليارات المليارات من المجرات ولا تتميز بشيء خاص بها عن نظيراتها وهي ليست في مركز الكون عكس ما كان شائعاً وفق نظرية أرسطو وبطليموس التي جعلت الأرض مركزاً للكون وتبنتها الكنيسة وجعلتها نظريتها التي تتوافق مع النصوص المقدسة.

د. جواد بشارة
باريس
[email protected]