عندما كنا في المدرسة الابتدائية في البصرة جنوبي العراق ،كان المعلمون يهتمون بتربيتنا قبل تعليمنا ، وكانوا يشرحون لنا الدروس بإخلاص وتفان ، ومن بين اﻷمور التي مازالت عالقة في الذهن ،أذكر أن معلم مادة الزراعة اصطحبنا في ساعات عملية نطبق من خلالها أو نلاحظ ماتعلمناه نظريا على أرض الواقع ،فشدنا منظر (البط) الذي كان يسبح في الجدول ويحرك الماء فيخلق جواً من المتعة ، والبطة
كائن وديع مسالم ،لذا جاء المثل الشعبي العراقي المعروف( مسعده وبيتك على الشط..وعلى باب دارك يسبح البط).
عندما كبرنا تغيرت الحال وسيطر على العراق نظام ظالم ازداد وحشية بعد الحرب الايرانية العراقية وكذلك بعد غزو دولة الكويت الشقيقة، فراح المعلمون يصطحبون تلاميذهم مجبرين إلى معسكرات التدريب العسكري ليكبر عودهم قبل اﻷوان ، وفي تلك المعسكرات كان كل خمسة تلاميذ يكلفون بمطاردة قط ، وعندما يمسكون بها يقطعونها بأسنانهم ويأكلون لحمها نيئا ، ثم يطاردون كلباً في المرحلة المتقدمة ويقاتلونه بضراوة حتى يذبحوه بالسكاكين.
لم يكن آنذاك من يجرؤ على منع ولده من الذهاب الى مثل تلك المعسكرات ﻷنه يعرف خطورة ذلك المنع.
الجيل الذي رباه المعلمون على الغرس والنبتة والطيور اﻷليفة لم يعد قادراً على حمل السلاح الآن ، والجيل الذي تربى في معسكرات ذبح القطط والكلاب وحاملو شهادات الشرق للاغتيال والتعذيب يحكمون الشارع الآن في البصرة ، والقتل لديهم أسهل من كتابة جملة مفيدة أو حفظ قصيدة.
تغير اﻹيقاع واصفر لون الوجوه كأنها في موسم القطاف،لذا راح البصريون يطلقون اﻷلقاب على ظواهر الزمن الجديد ( العلاسة..الحواسم..،،ووو) وصولاً إلى إطلاق لقب( البطة) على السيارة التي تستخدمها الجهات الرسمية واﻷحزاب في عمليات التصفية الجسدية، ومهمة (البطة) تكمن في اغتيال كل من يتحدث عن سرقة أموال الشعب أو كل من ينتقد العصابات المرخصة وغير المرخصة،لذا كان البعيدون يتصورون أن البصرة الفيحاء مازالت فيحاءً ، وأنها آمنة ، لكن تكميم اﻷفواه والبطة النشيطة حجبا عن العالم أبرز عمليات الاغتيال.
معظم حملة اﻷقلام الصحافية المحلية لاذوا تحت عباءات اﻷحزاب ليحموا أنفسهم وعائلاتهم من بطش البطة وأخواتها ، أما الرافضون لهذا المبدأ فقد ألفتهم المخابىء بعيداً عن اﻷنظار.
حكايات سيدتي (البطة) وأخواتها في البصرة لم تتوقف ولن تتوقف قريبا حتى وأن صال وجال الفرسان ، وستظل تعمل طويلاً خاصة في مواسم الانتخابات ، لكن سر عدم تداول أنشطتها في نشرات اﻷخبار يكمن في الخوف الذي يتعاظم..
البصرة مدينة حياة ولكي تستمر الحياة لابد أن تنتصر على (البطة) انتصاراً كاسحاً وتوقف حكاياتها ولو بدعم دولي لتعيد الى جدولنا البطة اﻷليفة التي تسبح أمام باب البيت فتسعد صاحبته وأسرتها وتسعدنا جميعا.
جاسب مجيد
التعليقات