كيف غزا صدام إيران بمباركة أميركية؟

صفحات مجهولة من تاريخ العراق المعاصر:

الجزء الأول

قد يعتبر البعض ما سوف نسطره و نرويه جزءا من نظرية المؤامرة المعروفة؟ وسوف يتنادى البعض لتسفيه روايتنا و التقليل من حقيقتها وواقعيتها تحت ذرائع شتى! و قد يتساءل البعض و هو محق في ذلك عن مصدر معلوماتنا التي نستند إليها في كتابة و تدوين و إعلان تلك الأحداث التاريخية التي لفها غبار النسيان و التي طمرت ملفاتها أو هكذا يعتقدون!

رغم أن العديد من الشهود و بعضهم من شارك في تقرير تلك الأمور ما زال على قيد الحياة، و ما زالت وثائق تلك الفترة القريبة زمنيا متوفرة و موجودة بالحفظ و الصون في طول العراق و عرضه و هي تحتوي على ( بلاوي و فضائح ) لو تسنى لها الظهور لغيرت الأوضاع العامة و لأحدثت فضائحا مدوية أين منها الفضائح التي أعقبت إنهيار ألمانيا الشرقية و ظهور فضائح جهاز أمن الدولة الألماني الشيوعي ( ستازي )!

فالفضائح و الغرائب المطمورة في العراق و المختفية تحت ركام و تراب الحرب و الفوضى هي واحدة من عجائب الزمن العربي، و لسنا بحاجة لإعادة التأكيد و التذكير بأن وثائق جهاز المخابرات العراقي السابق و الذي كان أنشط جهاز إستخباري في الشرق الأوسط لم تطل الكثير منها يد المصادرة أو التخريب، إذ أنه في نهاية عام 2001 و بعد أن تأكدت دوائر الرصد المخابراتية في العراق بأن الهجوم الأميركي واقع لا محالة تم تدبير أماكن تخزين بديلة للعديد من الوثائق المهمة و الحساسة، كما تم ( تصنيع ) و فبركة وثائق مزيفة تركت في المقر العام الذي أصابه الدمار التام خلال الحرب ثم الإحتلال!! مع ما يعني ذلك بأن العديد من الحقائق و الوقائع التي حدثت خلال العقدين الأخيرين في العراق لم تعرف رواياتها الحقيقية بعد، و طبعا ليس من حقي أبدا إفشاء مصادر معلوماتي فلكل كاتب مهما صغر شأنه أو علا سهمه مصدر معلومات هو بمثابة نافذة تتيح له الإطلال على بعض الزوايا و الثقوب الغير معروفة لقطاعات عديدة، و لقد ذكر الكثير عن حكايات التخادم السياسي و العسكري بين النظام السابق في العراق و الإدارة الأميركية، و بين رافض لتلك الحقيقة و مصدق لها طمست الكثير من الوقائع تحت ركام السنين و الأحداث العاصفة و الدموية العنيفة التي هزت الشرق الأوسط، لقد خاض النظام العراقي السابق أعقد و أصعب الحروب الإقليمية و دشن سياسات عسكرية عنيفة منذ بواكير أيامه، و كان مهووسا بمشاريع الهيمنة و التسلط التي توافقت او تصادفت مع الفراغ الستراتيجي الكبير الذي حدث في الخليج العربي بعد سقوط نظام الشاه الإيراني الذي كان ترسانة حقيقية من السلاح و القدرات الإقتصادية الكبرى و كان رجل الغرب المدجج بأحدث أنواع الأسلحة و الذي أصابه في نهاية المطاف بعقدة تضخم الذات حتى بات يتحدث عن مجالات إيران الحيوية التي تتجاوز الهند شرقا و مصر غربا!

فبعد الإنهيار الكبير في إيران شتاء 1979 قرر صدام حسين أن يضرب ضربته على مستوى السلطة في العراق و أن يحسم المواقف المترددة و أن يضع حدا لوجود وحكم الرئيس الكهل أحمد حسن البكر و ينهي و إلى الأبد بضربة واحدة إزدواجية السلطة ليحاول في نهاية المطاف البروز إقليميا بإعتباره الرقم الصعب و ضمن إطار لعبة الأمم الشرسة التي تصعد قيادات و تهمل أخرى و تهيأ السبل و العوامل لبروز من تحب و ترغب في الوقت الذي تشاء، فتلك اللعبة الأممية تعز من تشاء و تذل من تشاء! و تهزم من تشاء و تعدم أيضا من تشاء!! و لعل دراسة تجربتي نظام جمال عبد الناصر في مصر و صدام حسين في العراق توفر المسافة على المراقب الحصيف!!، وحكاية النظام البعثي في العراق مع الأميركان و السياسة الأميركية حكاية طويلة و غامضة تتداخل في طياتها الملفات الداخلية و الخارجية لترسم علامات إستفهام كبرى لم تزل حائرة، فليس سرا إن الإنقلاب العسكري البعثي الأول في الثامن من شباط 1963 كان مدعوما من أطراف إقليمية و دولية عدة على رأسها الولايات المتحدة و هو ما أشار إليه أمين عام حزب البعث الأسبق علي صالح السعدي بقولته المشهورة ( لقد جئنا للسلطة بقطار أمريكي )!!

و نفس هذا القطار سرعان ما تحول في صيف عام 1968 لسيارة نصف نقل ( وانيت ) بريطانية / أميركية مشتركة إقتحمت القصر الجمهوري لعبد الرحمن عارف بعد أن تخلى عنه ضباطه و حمايته من مجموعة ضباط الرمادي ليسلموا السلطة على طبق من ذهب لحزب البعث العراقي مرة أخرى و لينفردوا بها بعد أن غدروا بمن سهلوا لهم المهمة ليستمروا في السلطة حتى الإحتلال الأميركي الذي أزاحهم بشكل مباشر هذه المرة عام 2003 و لعل الرواية التي أعلنها وزير الدفاع السوري الأسبق العماد مصطفى طلاس و نقلا عن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر عن علاقة إلتقطتها المخابرات المصرية بين الإدارة الأميركية و صدام حسين منذ أن كان لاجئا في القاهرة أوائل الستينيات من القرن الماضي لها مصداقية كبيرة و سوف يكون لها مؤثرات كبرى بصدد ما نحن فيه الآن، لقد جاء عام 1980 و جاءت معه إستحقاقات تاريخية كان لا بد أن تدفع في خضم المتغيرات الكبرى في المنطقة و العالم، فالغزو السوفياتي لأفغانستان أواخر عام 1978 قد جعل الدب الروسي يقترب أكثر مما هو مسموح من شواطيء الخليج الدافئة، و مدافع آيات الله الجدد في طهران باتت تهدد بقنابلها التبشيرية البعيدة المدى و بخطط تصدير الثورة الأنظمة في المنطقة و ترسانة الأسلحة الإيرانية الضخمة التي راكمها الشاه المخلوع لا بد لها أن تستهلك قبل أن تكون أداة خطرة في لعبة خطرة أيضا و ليس هناك أفضل من الإحتياطي الأميركي المضموم الذي كان نظام صدام حسين في العراق خير نموذج شاخص له و قد جاء يومه الموعود و المنتظر، في نهاية عام 1979 كان واضحا تدهور العلاقات العراقية / الإيرانية و كان الشحن الإعلامي قد وصل أقصى مدياته، كما كان النظام العراقي قد تخلص بالكامل من كل أشكال المعارضة البعثية الداخلية بعد إعدام عشرات البعثيين من المحسوبين على خط الرئيس البكر الذي وضع بدوره تحت الإقامة الجبرية، و كان صدام حسين قد نبتت في ذهنه فكرة شن حرب على النظام الإيراني الجديد من شأنها أن تضرب عدة عصافير بحجر واحد فالقوة العسكرية العراقية كانت متنامية، و القدرة الإقتصادية كانت في أزهى حالاتها و الدعم الإقليمي و الدولي مفتوح و معروض أيضا و يإلحاح!! و المعارضة الداخلية لا وجود حقيقي و فاعل لها و هي ظروف مثالية لخوض الحرب و الذهلب بعيدا في مغامرات عسكرية كان يتم الإستهانة بنتائجها في قراءات ستراتيجية خاطئة في تقديراتها، و لم يطرح صدام هذا الرأي على حكومته أو مجلس وزرائه بل طرحه على خاصته من كبار ضباط الأمن و المخابرات و الحلقة الحزبية و العائلية الضيقة المحيطة به الذين كان يناقش معهم كل المخططات العسكرية و الستراتيجية بسرية تامة بعيدا عن أجهزة الدولة بما فيها المؤسسة العسكرية ذاتها! وهي حالة في منتهى الغرابة. و سنتابع في المقال القادم قراءة محاضر الجلسات السرية حول أخطر و أهم قرار في تاريخ العراق المعاصر كان المدخل الفعلي لكل الكوارث التي أحاقت بالعراق.

داود البصري

نهاية الجزء الأول

[email protected]