لم يكن التشجيع الحار الذي حظي به منتخبا تركيا لكرة القدم من قبل ملايين العرب والمسلمين أثناء بطولة الأمم الأوروبية المقامة في النمسا وسويسرا والتي تختتم فعالياتها اليوم بالمبارة النهائية بسبب المستوى الفني للفريق وإنما بسبب انتماء اللاعبين الأتراك للدين الإسلامي. فقد قدمت فرق أوروبية كثيرة مثل أسبانيا وروسيا والمانيا وكرواتيا والبرتغال مستويات فنية عالية تفوق بمراحل المستوى الذي قدمه المنتخب التركي. كان من الممكن أن يمر التشجيع العربي والإسلامي لتركيا من دون أن يستوجب الانتباه على اعتبار أن تركيا بلد جار تربط الدول العربية والإسلامية به علاقات تاريخية تعود إلى سنوات الخلافة الإسلامية. ولكن التعليقات التي ظهرت على عدد من المواقع الإلكترونية والتي دعت لنصرة المنتخب المسلم كانت مؤشراً على مدى التدهور الخطير في طريقة تفكير الشعوب العربية والمسلمة.

كان حشر الدين في الرياضة كالعادة عملاً قبيحاً وغير مبرر، فالتنافس الرياضي يقوم بالأساس على الكفاءة والروح الرياضية والتسامح، ولا مكان فيه للعنصرية الدينية أو العرقية أو الجنسية. ولكن التشجيع الأعمى لفريق بسبب انتماء لاعبيه لديانة معينة تعارض تماماً مع الغرض من التنافسات الرياضية. بالطبع نحن لا نصادر هنا حق المشاهد في تشجيع الفريق المفضل له، ولكن من المؤكد أنه يجب أن تكون لنا وقفة مع هذا التشجيع إذا كان يقوم على عوامل عنصرية. إذ أن لا فارق بين أوروبي أبيض يشجع الفريق الألماني لا لشيء إلا لأنه فريق يتشكل من لاعبين من ذوي البشرة البيضاء، ومسلم يشجع فريق تركيا لا لشيء إلا لأنه فريق يتشكل من لاعبين يدينون بالإسلام. كلا من الألماني والمسلم في الحالتين عنصري.

وقبل أن نتطرق إلى التشجيع الإسلامي للفريق التركي، فإنه من المفيد لفت انتباه القاريء إلى أن تركيا التي تتظاهر بحمل لواء العلمانية رغبة منها في خداع المجتمع الدولي للإنضمام إلى الاتحاد الاوروبي ارتكبت جريمتين بحق حقوق الإنسان حينما أجبرت اثنين من لاعبيها على تغيير أسميهما الغربيين قبل السماح لهما بارتداء قميص المنتخب التركي. اللاعب الأول الذي أجبرته تركيا على تغيير اسمه هو ماركو أوريليو البرازيلي المولد الذي منحته تركيا جنسيتها قبل عامين للعب ضمن فريها في بطولة أوروبا وتصفيات كأس العالم القادمة. لم تقبل تركيا، وريثة الخلافة العثمانية، بكاثوليكي يحمل اسماً غربياً بارتداء قميصها، فما كان من المسئولين الأتراك إلا أن أعطوا اللاعب اسم ميهمت أو محمد حتى يتسنى له اللعب باسم الدولة الإسلامية التركية. اللاعب الثاني الذي غيرت تركيا اسمه هو كولين كاظم-ريتشاردز المولود في العاصمة الإنجليزية لندن لأب تركي وأم بريطانية. لم تسمح السلطات التركية للاعب بالاحتفاظ باسمه الذي يغلب عليه الطابع الغربي، بل قام المسئولون الأتراك بشطب اسم كولن وريتشاردز وأطلقوا عليه اسم كاظم كاظم!

عودة إلى التشجيع العربي والإسلامي للفريق التركي الذي لم أجد له في الحقيقةً مبرراً منطقياً. فأداء الفريق كان دفاعياً مملاً في كل المباريات باستثناء مباراته الأخيرة ضد الفريق الألماني. وفضلاً عن ذلك فقد كان لاعبو المنتخب التركي الأسوأ سلوكاً وأخلاقاً بين المنتخبات الستة عشر التي شاركت بالبطولة. ولست ادري كيف يغض مشجعو الفريق التركي النظر تماماً عن سوء سلوك اللاعبين الأتراك، رغم تأكيد الإحصاءات على ذلك. وقد أكدت بيانات الاتحاد الأوروبي لكرة القدم على أنه من بين ثلاثة لاعبين حصلوا على البطاقة الحمراء في البطولة (حتى ما قبل المباراة النهائية) كان هناك لاعباً تركياً حصل البطاقة لاعتدائه بالضرب على الخصم. ومن بين الكروت الصفراء المائة والثمانية عشر الذين حصل عليها لاعبو البطولة كان هناك ستة عشر بطاقة للاعبين أتراك. كما كان اللاعبون الأتراك الأكثر ارتكاباً للأخطاء بين لاعبي البطولة حيث احتسب على الفريق التركي مائة واثنين خطأ. ولبيان سلوك اللاعبين الأتراك مقارنة بنظرائهم من اللاعبين اللذين بلغوا نفس المرحلة من البطولة فإن الأحصاءات تؤكد أن اللاعبين الأتراك كانوا من دون شك الأسوأ، حيث حصل اللاعبون الألمان على بطاقة حمراء واحدة وخمسة إنذارات فقط،
وحصل اللاعبون الأسبان على ستة بطاقات صفراء من دون بطاقات حمرا، وحصل اللاعبون الروس على عشرة بطاقات صفراء من دون بطاقات حمراء.

التشجيع الإسلامي لفرق الدول الإسلامية واللاعبين المسلمين يقودنا من للحديث عن الأولوية التي يمنحها المسلمون للدين كعامل ترجيحي مهم في التعامل مع الأخر. فالمسلم هو الأقرب لقلب أخيه المسلم من غيره من بني خلق الله حتى ولو اختلفت الأوطان ولو فصلت بينهما الأميال. ولعل الأمر هنا يفتح ملف مبدأ quot;انصر أخاكquot; التي يتمسك بها المسلمون. فالنصرة لن تقتصر بالطبع على مجال معين وإنما ستنسحب بالتأكيد على كل المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والحقوقية والمدنية. فإذا ما اندلعت حرب بين دولة مسلمة ودولة غير مسلمة، فنصرة المسلم يجب أن تكون للدولة المسلمة حتى ولو كانت هي الطرف المعتدي، وإذا ما ارتكب متطرف مسلم عملاً إرهابياً اًحمقاً ضد غير المسلمين فنصرة المسلم واجبة نحو المتطرف المسلم رغم جريمته، وإذا ما نشب نزاع بين مسلم وغير مسلم فنصرة المسلم يجب أن تكون للطرف المسلم حتى ولو كان هو الطرف المخطيء.

ويقودنا مبدأ quot;أنصر أخاكquot; كذلك إلى التساؤل بشأن ولاء بعض المهاجرين المسلمين في بلاد الغرب. فبعض المسلمين المهاجرين الذي يتخذون من الغرب مسكناً أو ملجأً لا وطناً يحتفظون بولائهم الكامل ومشاعرهم المنحازة للعالم الإسلامي والمسلمين، وينكرون على الدول الغربية التي احتضنتهم حقها في الحصول على ولائهم الكامل لها. وربما يدلل ظهور الكثير من الشبكات المتطرفة بين المهاجرين المسلمين في البلدان الغربية على هذه الفرضية.

تساؤل أخر يبرز على السطح هنا بشأن قبول المسلمين تطبيق مبدأ quot;أنصر أخاكquot; بين الأقليات المسيحية في بلاد المسلمين. لست أظن أن المسلمين سيقبلون بتأييد مسيحيي البلدان الإسلامية لـquot;أشقائهمquot; المسيحيين حول العالم لمجرد كونهم مسيحيين. لعلي لا أبالغ إذا قلت أن المشانق سوف تنصب لمسيحيي البلدان العربية والإسلامية ليس فقط إذا ما قاموا بتأييد الولايات المتحدة في حال خوصها حرباً ضد إيران بل أيضاً إذا ما قاموا بتشجيع فريق إيطاليا على سبيل المثال في مباراة لكرة القدم ضد فريق المملكة العربية السعودية. لا مجال للدهشة هنا، فالأمور في بلادنا تكال كالعالدة بمكيالين.

الأمور تبدو داكنة والمستقبل يبدو غامضاً في بلداننا بسبب حشر الدين في مختلف مجالات الحياة بدون مبرر. لقد كانت إقامة مباريات البطولة الأوروبية لكرة القدم مناسبة للملايين من محبي اللعبة حول العالم للاستمتاع بفنون الكرة التي قدمتها منتخبات راقية بحق. ولكن الاستمتاع بمشاهدة مباريات البطولة تحول لدى بعض المشجعين إلى حرب دينية مقدسة يخوضها المنتخب التركي وبعض اللاعبين المسلمين في المنتخبات الأخرى ضد منتخبات وفرق الكفر!!! لست أدري إلى أين يقودنا التطرف في التدين. فأحوال بلادنا تسير من سيء إلى أسوأ بسبب التطرف الديني الأحمق الذي يفسد كل مظاهر الاستمتاع الحياة. أقولها بصدق وبدون رياء بأنه لن تقوم لنا قائمة قبل أن نحتفظ بالدين فقط في القلوب وداخل أماكن العبادة، وقبل أن نتوقف عن استخدام مبدأ quot;أنصر أخاكquot; غير الموضوعي.

جوزيف بشارة
[email protected]