في 13/7/1989 وجدت الشرطة النمساوية ثلاثة جثث ملطخة بالدماء، داخل شقة مفتوحة الباب. لمن هي تلك الجثث وكيف أغتيلوا؟!
في عام 1989 إتصلت إيران بالإتحاد الوطني الكُردستاني (اوك)، من أجل ترتيب مفاوضات مع الحزب الديموقراطي الكُردستاني الإيراني بزعامة الدكتور عبدالرحمن قاسملو، من أجل التباحث في شأن الحكم الذاتي لمنطقة كُردستان إيران.
رحب السيد جلال طالباني زعيم (اوك) بالفكرة، واتصل بقاسملو الذي رحب بدوره بالعرض الإيراني.
إختلفت إيران مع قاسملو على تحديد مكان المفاوضات، فاقترح قاسملو فرنسا، فيما طرحت إيران المانيا التي رفضها قاسملو مكاناً للحوار. في النهاية إتفق الجانبان على النمسا.
في نمسا كان يقيم المفكر الكُردي الإسلامي الدكتور فاضل رسول، أستاذ في معهد العلاقات الدولية بجامعة لوكسمبورج، ومؤسس مجلة منبر الحوار ببيروت.
أثناء الجولات الأخيرة من المفاوضات في الثلث الأول من شهر تموز عام 1989، طالبت إيران بإنسحاب جلال طالباني من المفاوضات لأنه quot;ثرثار ويفشي الأسرارquot; كما قالت إيران.
من جهته وضح السيد طالباني أن طلب إيران بإنسحابه كان quot;لرفع غطاء الحماية التي كنت أوفرها لقاسملوquot; صرّح طالباني.
حينها إتصلت إيران بفاضل رسول الذي اقترح بدوره صديقه الرئيس الجزائري الأسبق أحمد بن بلله، كونه مشغولاً بترتيب الحوار بين مفكري الإسلاميين والعلمانيين والقوميين في القاهرة حيث كان اللقاء الأول بداية العام نفسه. وافقت إيران في البداية ثم رفضت ذلك وطلبت من فاضل أن يكون هو الوسيط، فقبل الفكرة.
كان أحمد بن بللا ضيفاً لدى فاضل رسول في تلك الأثناء.
في الإثنين 10/7/1989 بدأت جلسات الحوار في شقة بالطابق الخامس في شارع (لينكه بان كازه) بفيينا.
أثناء إتصالي بالدكتورة سوزان رسول، أرملة فاضل، عام 2001 أكدت لي أنها طرحت نفسها بديلاً عن فاضل للتوسط خشية وجود مؤامرة ضد فاضل لكن quot;فاضلاً استبعد ذلك وظن أن الإيرانيين لا يؤذونهquot; أضافت سوزان.
العلاقة بين فاضل رسول وإيران، شابها فتور وتوتر منذ بداية الثمانينيات، حيث رفضت إيران وقف إطلاق النار مع العراق، فكان إنزعاج فاضل كبيراً، لأنه كان يطرح فكرة الجامعة الإسلامية بين شعوب المنطقة، فرأى إستمرار الحرب ضرباً لهذا المسار، ففتر حماسه وحماس آخرين من المفكرين مثل منير شفيق ورضوان السيد ووجيه كوثراني، يقول رضوان السيد في مقال له بعيد إغتيال رسول.
لذلك فإن إيران لم تستضف فاضل رسول للمؤتمرات الإسلامية والفكرية، التي كان فاضل عضواً مهماً فيها قبل مدة طويلة، وبالتحديد في بداية الثورة الإسلامية.
كان الوفد الإيراني مؤلفاً من:
1- محمد رحيم شهرودي: مساعد قائد فرقة كُردستان للحرس الثوري، ووصل فيينا بجواز سفر ديبلوماسي يحمل إسم محمد جعفر صحرارودي، وهو صديق مقرّب من طالباني، وأنقذه الحزب الديموقراطي الكُردستاني بزعامة السيد مسعود بارزاني، من قبضة الأميركيين في بداية عام 2007 أثناء مداهمة القوات الأميركية القنصلية الإيرانية بأربيل، حيث كان شهرودي يقيم فيها أثناء زيارة له إلى أربيل.
2- منصور بازركان، العميل الكُردي (وفق بعض المصادر): عضو في المكتب الخارجي للإستخبارات الإيرانية.
3- مصطفى حاج فدائي: مسئول في وزارة الحرس الثوري، ودخل نمسا بجواز سفر بسم محمد رضوي.
4- رحيم بورسيفي: عضو إستخبارات الحرس الثوري، وكان يقيم في فيينا منذ فترة تحت غطاء لاجئ سياسي.
كان معروفاً عن فاضل عدائه للصهيونية التي اتخذت من إسرائيل ماكنة لها quot;لتفتيت المنطقة الإسلامية إلى كيانات صغيرة ومتناحرة في لبنان وسوريا والعراق. ففي العراق تريد إسرائيل تقسيمه إلى ثلاث كيانات شيعي وكُردي وسنّيquot; يقول فاضل في إحدى مقالاته بمجلة منبر الحوار عام 1988.
وبحسب البروفيسور عزالدين رسول كان الدكتور عبدالرحمن قاسملو معادياً للصهيونية (وليست اليهودية)، لأنه كان يعتبرها رديفاً للنازية والفاشية. وكان قاسملو قد أجرى دراسات مكثفة حول الصهيونية مثل فاضل رسول.
وكما معروف أن النمسا كانت وماتزال واقعة تحت النفوذ اليهودي، فكانت الدوائر الإسرائيلية على علم تام بجهود وخطط وأفكار فاضل رسول، من أجل إنهاء الصراع في المنطقة وخلق تقارب بين مكوناتها، وكذلك كانت على علم بمحتوى قاسملو.
يشارك قاسملو ورسول في معاداة الصهيونية، السيد عبدالله اوجلان زعيم حزب العمال الكُردستاني، لذي سلّمه جهاز الموساد الإسرائيلي إلى تركيا عام 1999، في عملية الخطف الدولية المعروفة.
يبدو أن سيدة يهودية (إسمها ريتا وفق مصادر معينة) تعرفت إلى فاضل في معهد العلاقات الدولية بفيينا، والتي كان فاضل يحاضر فيها.
ريتا كانت صاحبة الشقة، التي جرت فيها المفاوضات بين الإيرانيين والوفد الكُردي، وكانت على صلة مع أكثر من عنصر ضمن الوفد الإيراني وربما مع عناصر معينة في السفارة الإيرانية.
كان السيد أحمدي نجاد (الرئيس الإيراني حالياً) مسئولاً في الإستخبارات الإيرانية في ذلك الوقت، ودخل هنغاريا ونظم عملية تهريب السلاح إلى داخل النمسا. وكان السلاح عبارة عن رشاشات يدوية صغيرة ومسدسات، وكلها مع كاتم صوت.
وفق بعض المصادر، يقول السيد جلال طالباني أن يوم الأربعاء 12/7/1989، كان آخر أيام المفاوضات. لكن كيف قبل قاسملو الجلوس مرة أخرى إلى طاولة المفاوضات وما الذي طرأ؟ يتسائل المصدر.
في الساعة العاشرة صباحاً توجه قاسملو برفقة عضو في حزبه إلى مكان المفاوضات، ورفض أن يرافقه إلى الشقة التي جرى فيها الحوار.
وتوجه فاضل رسول من بيته إلى المكان المذكور وانضم إليهم نائب قاسملو، عبدالله قادري آزر، وكذلك الوفد الإيراني المؤلف من الرجال الأربعة أولئك.
إستمرت الجلسة الأولى حتى بعد الظهيرة من يوم الخميس، الذي كان أول أيام عيد الأضحى المبارك.
في الساعة الثانية تستمر الجلسة لمدة، ثم بين العصر والمغرب يترك فدائي وبورسيفي مكان المفاوضات، بحجة التشاور مع حكومة طهران.
وفي الساعة قبل السابعة مساء يستأذن منصور بازركان المجتمعين، للذهاب خارجاً لإقتناء بعض الطعام والسجائر، ويسألهم إذا كانوا يريدون شيئاً.
يبقى صحرارودي لوحده مع الوفد الكُردي، ثم في الساعة السابعة وخمس دقائق يقتحم فدائي وبورسيفي وبازركان مكان المفاوضات، ويطلقون النار عن قرب على كلّ من فاضل رسول وعبدالرحمن قاسملو وعبدالله قادري آزر.
صحرارودي أصيب بطلقات في فمه ورقبته عن طريق الخطأ، أو لعلّ آزر إستعمله كدرع لحماية قاسملو، أو أن الإيرانيين تعمدوا إصابته للتستر على الجريمة.
الإيرانيين الثلاثة الآخرين أطلقوا الرصاصات صوب الأكراد الثلاثة، فأصيب قاسملو بإحدى عشر رصاصة في صدره ورقبته، وفاضل رسول بخمسة رصاصات في صدره ورقبته. وأصيب عبدالله آزر بسبعة رصاصات.
فاضل رسول، وعبدالرحمن قاسملو، وعبدالله قادري آزر قضوا نحبهم في الحال، وهم يسبحون في دمائهم في مساء عيد الأضحى.
أما العناصر الإيرانية الثلاثة فولت بالفرار، فيما يصرخ رابعٌ جريح للنجدة، وقد وصل إلى خارج البناية، حتى عاد إليه بازركان وأخرج الجواز الديبلوماسي والوثائق الأخرى من جيبه. لكن البوليس النمساوي وصل المكان حالاً، فعرض بازركان جواز سفره الديبلوماسي واتجه نحو سفارة الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ليجتمع بفدائي وبورسيفي.
بعد وقت قصير، ترك الثلاثة نمسا، وعادوا إلى إيران بجوازاتهم الديبلوماسية.
أما صحرارودي فأخذ إلى المستشفى وتلقى العلاج وعاد إلى السفارة، وتم ترحيله بجواز سفر ديبلوماسي إلى إيران، ولم تنفع مظاهرات الأكراد أمام سفارة إيران للحيلولة دون تسفير صحرارودي، فقد طالب الأكراد إعتقاله والتحقيق معه لدى السلطات النمساوية بشأن حادثة الإغتيال.
لكن السلطات النمساوية سهلت لصحرارودي السفر إلى إيران، واختفت ريتا (السيدة اليهودية) ولم تُستدعى لأي تحقيق.
وإلى يومنا الحاضر ترفض السلطات النمساوية فتح تحقيقي قانوني في هذه الجريمة، وهذا ما شجع الإيرانيين على إرتكاب جريمة أخرى في برلين، حيث اغتالت عناصر المخابرات الإيرانية خلف الدكتور قاسملو، الدكتور صادق شرفكندي (سيد بدل) وثلاثة من رفاقه بمطعم ميكونوس في برلين عام 1992!
علي سيريني
التعليقات