المثل هو حكاية شعب يعيش تحت عنوان حضارة واحدة أو بيئة واحدة لها قواسم مشتركة تميزها عن غيرها، ويمتاز المثل بخصوصية تفرقه عن الشعر أو القصة وهذه الخصاصة التي تميز المثل تعتمد على وضوح المعنى بقليل من الألفاظ، ويمتاز المثل أيضاً بأن ليس له قائل أي إنه حكاية إرث جماعي، فإن قيل لك أن هذا المثل من تأليف زيد أو عمرو فهذا ليس من الصحة في شيء.
فهو كالفلكلور والفنون الجماعية التي ليس لها مؤلف بعينه ولكنها إرث مشترك يمثل هوية تلك البيئة التي خرج منها، فعلى سبيل المثال حين سماعك للسامري أو الخماري، النقازي، العدني أو فن الصوت، فلا بد أن يتبادر إلى ذهنك أن هذا الفن من منطقة الخليج العربي،أو بالأحرى نشأ من المنطقة التي تعرف بالقرين [ الكويت حالياً ] أو هو إمتداد إلى حضارة دلمون [ البحرين الآن ].
وكذلك الحال عند سماعنا للمقام العراقي أو المربعات البغدادية وغيرها من الفنون التي هي نتاج بلاد الرافدين، وهذا يجري في القدود الحلبية والموشحات الأندلسية والدور المصري وغيرها. علماً أن هناك بعض الفنون المشتركة لأكثر من بلد تحت مسمىً واحد كالمنلوج الذي لم يعد له أثر الآن وقد تستغرب أن فن الطنبورة الذي أشتهر في الخليج والبصرة والذي سميت إحدى الآلات الموسيقية بإسمه قد تستغرب من وجود هذا الفن في المكسيك ويؤدى بنفس الألحان والفرق فيه هو إختلاف اللغة فقط.
إذاُ فالمثل هو إرث جماعي يضرب إما لحكمة معينة يسهل تداولها بين الناس أو لتشبيه حالة معنوية بواسطة أخرى حسية لتقريب المعنى المراد من الأولى، ويعنى بضرب الأمثال تسييرها في البلاد، لأن المراد من الضرب هو السير كما في الآية الكريمة : ( وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله ) المزمل 20. أي يسيرون.
ويكثر إستعمال الأمثال في الكتب السماوية لأجل توضيح المعاني بطرق يستوعبها المتلقي لأنه لا يمكن تقريب الغيبيات التي لم نشاهدها أو ندركها بحواسنا إلا عن طريق ضرب الأمثال لها، لأن فهمها متيسراً لدى الجميع. وقد بين تعالى العلة من الأمثال بأنها للتذكير والتفكير كما في قوله : ( ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ) إبراهيم 25. وقوله : ( وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون ) الحشر 21.
والقرآن الكريم كونه نزل بلغة العرب وعلى قواعدهم لذلك نراه قد إستعمل نفس الأدوات المستعملة عندهم من مجاز وبديع وتشبيه وطباق وجناس وحكم وأمثال وغيرها، ومن يعترض على هذا فإنه جاحد لكتاب الله، كما هو الحال مع الذين تمسكوا بنفي المجاز من القرآن الكريم ظناً منهم أن الله تعالى ليس بحاجة للمجاز فهو لا ينقصه شيئاً بعكس الشاعر الذي يحتاج إلى الضرورة الشعرية أو الخطيب إلى المجاز. والرد على هؤلاء أن نقول لهم أن الله تعالى أنزل القرآن الكريم بما يناسب تعبيرنا وإستعمالنا للغة لا أن هناك لغة خاصة تنسب إليه جل شأنه، فهو ليس عربياً وإنما نحن العرب لأنه [ ليس كمثله شيء ] وإلا ما رأي هؤلاء بقوله : ( سنفرغ لكم أيه الثقلان ) الرحمن 31. هل إن هناك ما يشغله تعالى حتى يفرغ منه ويتجه للثقلين يوم القيامة.
فالأمر ليس كذلك ولكنه تعالى يخاطبنا بما هو مألوف لدينا. ومن هنا فلابد أن نشير إلى أن الإرث الجماعي ممكن أن يكون حالة معينة بعيدة عن الفنون أو اللغة ولكنها تصبح متداولة بين أبناء البيئة الواحدة أو ربما تكون محدودة على نطاق قرية أو مدينة صغيرة.
كما هو الحال مع المرأة الحمقاء التي كانت في مكة حين تأمر فتياتها بالغزل ثم بعد إتمامه تأمرهن بنقضه بسبب جنونها، لذلك فإن القرآن الكريم لم يغفل هذه الحالة بل ضرب بها مثلاً للذين يتخذون أيمانهم دخلاً أي [ غشاً ] بينهم كما قال تعالى : ( ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم....... الآية ) النحل 92.
ومن هنا يظهر أن المثل لا بد أن يكون من صنيع البيئة التي ينشأ فيها فلا يمكن أن يضرب مثل صناعي في بلاد عرفت بالزراعة أو العكس. وكذلك لا يمكن أن يخرج مثل صحراوي من بيئة مائية وهكذا. ولهذا فإن القرآن الكريم جارى أهل مكة بضرب الأمثال التي تناسب ما ألفوه في معيشتهم فنجد الأمثلة التي إستعملها القرآن الكريم في مكة تعتمد على ذكر الحيوانات التي تعيش بينهم والعبد المملوك والحشرات وغيرها ولكن بعد الهجرة للمدينة نجد أن الأمثلة قد أخذت تتغير لما كانت تشتهر به كوجود المصباح في زجاجة وفتنة الذهب لغرض الحلية والمتاع وغير ذلك ولو أن هذه الأمثال نزلت في مكة لم يكن بإستطاعتهم معرفة مدلولها أو حتى ماذا تعني ألفاظها.
والأمثال في القرآن الكريم كثيرة ولكل منها غرض يعالج حالة معينة كإجتناب ما ينهى عنه أو أمر يلزم إتباعه ولنأخذ أحد هذه الأمثلة ثم نسلط الضوء على ما يقصد منه. في قوله تعالى : ( مثل الذين إتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت إتخذت بيتاً وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون ) العنكبوت 41. فهذا المثل ضربه تعالى للذين يتخذون ولياً غيره جل شأنه معتقدين أن هذا الولي هو المنقذ الذي يجب التحصن به كأن يكون حاكماً أو عالماً أو كل ما يقدس على طريقة أهل الضلال، أو من المشاهير الذين توجه لهم الأنظار أكثر مما توجه إلى الله تعالى، علماً أن هؤلاء لا يدفعون ضراً ولا يجلبون نفعاً.
فلذلك شبه تعالى حال من يلجأ إليهم بحال العنكبوت التي إتخذت بيتاً في غاية الوهن ولا يمكن أن يتكفل بحمايتها من الأخطار الخارجية، فكذلك هؤلاء عند إتخاذهم للأولياء الضعفاء مقابل الله تعالى يكون أشبه بذلك البيت الذي هو في منتهى الوهن والضعف.
ومن أوهن الأقوال التي قيلت في هذه الآية الكريمة هو ما ذهب إليه بعض المفسرين من أن هذه الآية تحدثت عن العنكبوت كونها أنثى وعلى هذا الرأي فإن البيت المقصود الذي ضرب المثل لأجله هو البيت الذي يكون تحت تصرف المرأة دون الرجل وأرادوا بذلك التقليل من مكانة المرأة علماً أن هذه هي وضيفة المرأة الأولى، وهذا من أضعف الآراء، حيث لا علاقة للأنثى بالآية الكريمة. أما لفظ التأنيث فيها فهو ظاهر لأنها حشرة وهذا يجري في النمل والنحل والبعوض كذلك.
وأكثر من هذا الرأي ضعفاً الذين قالوا أن العلم الحديث إكتشف أن العنكبوت التي تنسج البيت لابد أن تكون أنثى وأرادوا تطبيق هذه الآراء على علم الغيب الإلهي. ومما يضعف آراء هؤلاء أن تأنيث العنكبوت من اللغات التي تعارف العرب عليها قبل نزول القرآن الكريم كما قال أحد الشعراء :
ولو أن أم العنكبوت بنت لهم *** مظللتها يوم الندى لأكنت
وقال أهل اللغة : العنكبوت لفظ مؤنث جائز فيه التذكير كالروح والطاغوت، العنق، السلطان، السماء، السبيل، الطريق، والسكين..... الخ.
فإن قيل لماذا وضع تعالى الظاهر موضع المضمر في قوله : [ وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت ]. أقول : لأجل أن يسير هذا المثل بين الناس ولو قال لبيتها لإنتفت هذه النكتة.
عبدالله بدر إسكندر المالكي
[email protected]
التعليقات