اليمن الجار المتعب قدرنا الذي لامفر منه وحديقتنا الخلفية التي طالما كانت مسرحاً لكل من لديه وترُ مع المملكة العربية السعودية، أن أفضل ما يمكن أن يفعله الأنسان هو أن يحيل أوسع تجربه ممكنه إلى وعي كما يقول مالرو على لسان بطل رواية الأمل، وتجاربنا مع الجار اليماني عميقة ووسيعة ولكنها للتو بدأت في طور التحول الى وعي والأهم من ذلك لنا هو أسترجاع الدروس وأخذ العبر، بالطبع فأن للبعد الجيوبوليتيكي الدور الرئيس في نسج هذه العلاقات الدراماتيكية مع الجار الجنوبي عبر كل هذا التاريخ السياسي الممتد من عقود. وما يحدث الأن من حرب السلطة اليمنية مع الحوثيين لايمكن فصلها عن هذا السياق وأن كان بشكل غير مباشر، المحير في الأمر أن السلطة اليمنية لم تحسم أمرها مع الحوثيين لأسباب يذكر المراقبون أن من أهمها الصراع الداخلي على السلطة والتوريث وتجارة السلاح، وربما أبقاء ضرع البقرة الحلوب للمساعدات الأقتصادية والسياسية، أو ربما أستخدام ورقة الحوثيين كجوكر في مفاوضات الوضع النهائي على طاولة رسم علامات الحدود وهذا ما قد يفسر الاسلحة الثقيلة والنوعية التابعة للجيش اليمني والتي وجدت في مخابيء بعض جيوب الحوثيين، وأضافة الى علامة الأستفهام الكبيرة من عدم فاعلية الأمن اليمني لضبط وتأمين حدوده الشمالية مع السعودية.

الحقيقة الواضحة بعيداً عن كل التبؤات السياسية هي أرتباط الحوثية بالمشروع الأيراني، أنا هنا لا أقول أرتباطاً له خلفية عقدية مذهبية على الأقل من جانب أيران التي تعلمنا كل يوم أن وحدها النظرية الميكافيلية هي التي تتحكم في علاقاتها مع محيطها الشرق أوسطي حتى ولو كان ذلك عبر التحالف مع القاعدة السلفية الأصولية والجماعات الجهادية والتكفيرية في مصر والجزائر من جانب وأختطاف قرار جماعات الأسلام السياسي كالأخوان المسلمين من جانب أخر، ونموذج حماس قد يكون هو الأكثر وضوحاً، بل أكثر من ذلك فلم نعد نستغرب علاقة أيران الفارسية بالقوى والشخصيات العروبية والقومجية التي لها إرث في العداء التاريخي مع أيران والذي لايمكن أن يمحى من ذاكرة التاريخ من أيام عبدالناصر إلى صدام حسين، ولم نعد نستغرب أن توجه قوى اليسار العربي قبلتها إلى طهران الفارسية. أيران كما أراها في كل تعاملاتها السياسية فارسية وليست شيعية، وتتعامل من هذا المبدأ وترى أن العرب بكل تصنيفاتهم وعقائدهم، هم من كانوا سبب سقوط أمبراطوريتهم العظيمة التي حكمت الشرق الأوسط لقرون عدة، المسترعي للأنتباه هنا هو أن أيران وريثة الأمبراطورية الفارسية تتعامل سياسياً مع محيطها العربي كما كانت الأمبراطورية الأم، حيث سعت أمبراطورية الأكاسرة إلى أستخدام بعض العرب أمثال المناذرة في الحرب ضد الروم في الوقت الذي تستخدم أيران اليوم ما يمكن لها أن تستخدمه من العرب سواء حكومات أو تيارات وأحزاب أو أفراد وتوجهم في حربها ضد الغرب أو الوريث الشرعي لأمبراطوريات الروم.

المراقب للأوضاع يرى أن رد السعودية على الأعتداء الحوثي في اليمن كان قوياً وحاسماً وهذا ما أفقد الأنظمة التي تدعمه كل توازنها السياسي فأستنفرت كل طاقاتها الأعلامية المتمثلة في بعض القنوات العربية الأخبارية، وبعض الأدوات هنا وهناك، فبالأمس مثلاً خرج بيان من مكتب الأرشاد لحركة الأخوان المسلمون أنشائي صيغ بلغة تٌحمل السعودية مسؤولية الأحداث على حدودها وكأن السعودية الدولة المسؤولة في المحيط العربي والاسلامي والدولي سعت لأشعال النار على حدودها وتهجير مواطنيها من قراهم وأستنفار طاقاتها العسكرية والأمنية في هذا الوقت بالذات الذي تستعد فيه لأستقبال موسم الحج الأكبر، نعم وليس سراً أن السعودية معنية بالدرجة الأولى بالصراع اليمني بين السلطة وزمرة التمرد الحوثي بل أن هذا الأهتمام واجب سياسي وأستراتيجي تحتمه عليها عقيدة حماية الوطن، فالصراع على حدودها وليس في القطب الجنوبي، كما أن السعودية حريصة أن لا يتمدد الفكر التمردي المدعوم من مخابرات دول المنطقة إلى حدودها، وبهذا فمن حق السعودية المشروع أتخاذ ما تراه مناسباً لحماية أمنها القومي، ولكن كلنا مؤمن أن السعودية لم تكن تريد أن تأتي اللحظة التي تضطر فيها للدفاع عن حدودها عسكرياً على الأقل، وهي التي دعمت سابقاً كل الحلول السياسية التي أدت إلى اتفاقات ومصالحات سياسية بين النظام اليمني والحوثيين برعاية عربية وأقليمية ولكن كل ذلك الدعم لم يكن كافياً لأثبات حسن النية الذي تطالب به السعودية في كل وقت، مع العلم أنه لو لم تكن السعودية راغبه في توصل الحوثيين والسلطة اليمنية لأتفاقات سياسية فلن تمرر تلك الأتفاقيات،فالسعودية دولة محورية وأساسية وصاحبة القرار السياسي في المجتمع الأسلامي واللاعب الأكثر تأثيراً في الشرق الأوسط والأهم في الأقتصاد العالمي. وبالأمس قرأنا تصريحاً لجواد المالكي رئيس وزراء العراق يقول أن موقف السعودية من العراق سلبي، هذا التصريح في هذا الوقت بالذات وبدون أي مناسبة لا يمكن أن نفصله بأي حال عن الحرب الأعلامية ضد السعودية والتي بدأها مرشد الثورة الأيرانية آيه الله خامنئي وبعد ذلك أستكملها الرئيس الأيراني أحمدي نجاد ورجل الدين المحافظ والقوي أحمد خاتمي، والثلاثة هم من يمثل وجه هزيمة التيار المحافظ في الأنتخابات الرئاسية الأيرانية والذي أضطر معها تيار المحافظين لعملية تزوير كبيرة لأسقاط التيار الأصلاحي وما صاحب ذلك من أحداث أفصحت عن هشاشة قواعد النظام الشعبية، فكان أن تعلقت حكومة الحرص الثوري بجنبية الحوثي وربطة عنق مهدي عاكف للمساعدة في تصدير الأزمة الداخلية والعاصفة بالنظام خارجياً، خصوصاً بعد أن تسربت تحقيقات جدية حول الصراعات الدموية والأغتيالات داخل منظومة المخابرات والأمن التابعة للنظام ومنها محاولة لأغتيال المرشد نفسه وكذلك تورط أجنحة في الحرس الثوري الأيراني في تصفية بعض القادة في عملية جريئة تمت في بلوشستان، وحتماً فقد كان أختبار توقيت ومكان العملية كان الهدف منه هو التخلص من هذه القيادات في صراع كسر العظم من ناحية ومن ناحية أخرى أضفاء بعد مذهبي عليها حيث أنها جرت في منطقة سنية ملتهبة.


وفي حدثين مرتبطين مختلفين فقد أصدر يحي الحوثي خطاباً أشبه ما يكون بأعلان الأستسلام يناشد فيه الحكومة السعودية بالتوقف عن قصف مواقعه في الوقت الذي لم يكن مضطراً لهذه المناشدات لو قام بتوجيه مناشداته تلك لجيوبه على الحدود السعودية بالأنسحاب وتعهد بعدم المساس بحدود السعودية. والحدث الأخر هو ما صرح به ثعلب السياسة الأيرانية ووزير خارجيتها منوشهر متكي من دعوة دول جوار اليمن لعدم التدخل فيما أسماه شؤونه الداخلية وردت الفعل هذه هي محاولة أخيرة لأنقاذ ما يمكنه أنقاذه بعد أن ورطت طهران الحوثيين في حرب لاطائل لهم منها، أضافة الى أن هذا دليل واضح على تورط النظام الأيراني في الشأن الايراني.

وفي سياق منفصل عمد النظام الأيراني إلى أستخدام تكتيك عدم التصعيد مع السعودية في ملعب أخر وهذه المرة هو لبنان بعد أن أومئت طهران برأسها لبيروت فوقع حزب الله على مرسوم تمرير الحكومة اللبنانية التي يرأسها سعد الحريري السني والحليف السعودي، من يدري ربما غداً ستدفع أيران بعض دول المنطقة القريبة العربية والاقليمية منها لمحاولة أنقاذها في اليمن عبر الحوار مع السعودية عندها ستترتب من جديد رقاع الشطرنج.

الرياض