لم تنطلي التمثيلية التي قام بدور البطولة فيها رئيس الوزراء التركي رجب الطيب أردوغان، والدور الرديف الرئيس الإسرائيلي السابق شيمون بيريز، على أحد، سوى اللهم على الخموع التركية، التي كانت حاضرة في مطار اسطنبول لاستقبال رئيس الوزراء التركي العائد مظفراً من quot;موقعةquot; دافوس في سويسرا. ولن نستفيض في تفاصيل وأسباب اعتبارنا هذه quot;المواجهةquot; بالتمثيلية، يكفي أن نلفت فقط إلى المدة القصيرة التي تم خلالها جمع الحشود المصفقة والمزغردة لأردوغان في مطار اسطنبول، والتي لم تتجاوز الساعتين، أي ما يوازي أو أقل الوقت التي تأخذه الطائرة من مطار دافوس إلى مطار اسطنبول. فكيف تجمع كل هذا الحشد وبهذا الوقت القصير؟ ألا يحق الافتراض بأن هذه الجموع إنما كانت مبرمجة مسبقاً ضمن سيناريو مدروس، يلي عاصفة كان من المقرر افتعالها من قبل رئيس الوزراء التركي في المنتدى الذي جمعه وشيون بيريس، في مؤتمر صحفي مشترك في منتدى دافوس العالمي؟ وليس مهماً التوقف طويلا حيال فصول ومراحل هذه quot;المجابهة المتلفزةquot;، بقدر ما هو مهم النظر في خلفيات وأهداف هذه الشجار المصطنع. وبغض النظر عن اتصال quot;تصفية القلوبquot; والذي جرى وبسرعة فائقة بين الرجلين، غداة المواجهة، والذي هدف لإظهار محدودية تأثير هذه quot;الواقعةquot; على حسن العلاقة بين إسرائيل وتركيا، لا بد من التوقف أمام عاصفة ردات الفعل العربية، والإسلامية على وجه الخصوص لهذه التمثيلية، والتي كانت الرغبة في إحداثها، وراء كل هذه المسرحية الذي شهدت فصولها quot;الحاميةquot; أجوا مدينة دافوس الباردة، إذ انهالت على الفضائيات ووسائل الإعلام بشكل عام، التصاريح المؤيدة والمهنئة بموقف أردوغان، والذي وصف بالبارز والمميز والشجاع، وصولاً إلى اعتباره من قبل جهات مغرضة طبعاً، متفوقاً ومتقدما على مواقف بعض العرب. وغني عن الذكر الأطراف والأحزاب المصفقة لموقف أردوغان، فكلها أعضاء في نادي quot;الممانعةquot;، والتي تديره إيران. مما يعني أن كل هذه التمثيلية إنما كانت تهدف لكسب التأييد الإسلامي على مستوى الشعوب العربية، بهدف استثمار هذا التأيد في مجال دعم مخطط تركيا للتحول لزعيمة العرب. أما المراهنة quot;الاردوغانيةquot; فكانت أن يتوقف الإنسان العربي هنا، أي عند هذا quot;الانتصارquot;، فلا يقرأ ولا يتابع مجريات الأحداث، حيث تم وبعد إعلان التأكيد على حسن العلاقات، تسليم صفقة الأسلحة الاسرائيلية والطائرات من دون طيار إلى تركيا.
وتمثيلية اردوغان ليست منفصلة عن مجريات الأحداث المواكبة والهادفة بالاتجاه نفسه. فكلام أردوغان مخاطباً شيمون بيريس، عن تفوق الدولة التركية وعظمتها واستهتاره بالقيادات العربية المتمثلة quot;بالشيوخ العربquot;، زائد حملة أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله على مصر متهماً إياها quot;بالخيانةquot; وquot;الكذبquot;، والتي تلاها هجوم مركز إعلامي على أمين عام الجامعة العربية عمرو موسى، على خلفية اتهامه بالتخاذل وبعدم مغادرة صالة الاجتماع في دافوس تأييداً لموقف أردوغان، كما استهداف منظمة التحرير الفلسطينية، من قبل رئيس المكتب السياسي في حماس خالد مشعل المقيم في دمشق، كلها مواقف تصب في الإستراتيجية ذاتها. وهي استراتيجية باتت واضحة المعالم، وعنونها: دك مساعي جهود وادوار الدول العربية النافذة والمحورية، والتقليل من قيمتها، ومهاجمة كل المؤسسات التاريخية العربية القائمة، خدمة للمحور الجديد الذي بدأت تلوح ملامحه في الافق، وهو المحور التركي الإيراني الإسرائيلي.
ولقد وعي العاهل السعودي لهذه الدسائس، فأكد مجلس الوزراء السعودي والذي انعقد منذ يومين برئاسة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، بأن وحدة الصف العربي تقتضي quot;نبذ سياسات المحاور، والتصنيف، والتأليب، والتنبه للأطماع الإقليمية والخارجية التي تتستر وراء الادعاء بدعم قضايا العرب والمسلمينquot;.
وبدافع الموقف الإنساني قد لا نشك في مشاعر الطيب أردوغان، وطيبته، وطيبة قلبه، ولا نستغرب غضبه تجاه ما تعرض له أطفال غزة من ذبح وحرق وتشويه، فما من إنسان على وجه الأرض تسري في عروقه دم بشرية، إلا ويقشعر بدنه، وتتقزز نفسه لمشهدية وحشية وفظاظة الآلة العسكرية الاسرائيلية. ولكن يبقى أن المشاعر أمر، وسياسات الدول وانعطافاتها الدراماتيكية أمر آخر، فهي لا تحددها العواطف، ولا تديرها المشاعر أيا تكن فظاعة الأحداث المسببة لها. وتركيا اليوم هي بصدد انعطاف جديد في سياستها الشرق أوسطية، وفي الخطوات الأولى من رحلة الألف ميل لتحقيق طموحاتها في قيادة السفينة السنية في بحار الشرق الأوسط المتقلبة والعاصفة. يبقى الملفت هو النهج الذي بدأت تعتمده تركيا لتحقيق أهدافها هذه، ويتمثل بالاصطفاف وراء دول quot;الممانعةquot;، وبالوقت ذاته المحافظة على أفضل العلاقات مع إسرائيل.
وفيما يبدو وللوهلة الأولى بأن هذا الدمج هو شبه مستحيل، كما وأيضاً فرضية طرح الحلف الثلاثي الآنف الذكر، على أقله نسبة للنفور والعداء القائمين بين قطبين أساسيين فيه وهما إسرائيل وإيران، يبقى أنه يمكن الجزم وتبعا للقاعدة البراغماتية، التي تقول بأنه ما من حلف يقوم من دون أن يجد كل فريق مصلحة ما له ضمنه، بأن إيران واسرائيل بامكانهما التوصل إلى نوع من الاتفاق عن طريق الوسيط التركي، يوما ما، أسوة بالمفاوضات السورية الاسرائيلية. وإيران التي أثبتت وجودها على المستوى الشرق أوسطي، إن في العراق، وإن في باقي الأقطار العربية، بدأً بلبنان، مروراً ببعض دول الخليج، وصولاً إلى فلسطين، وحتى إلى مصر، حلمها هو التوصل إلى إقصاء الدور السني العربي التقليدي في الشرق الأوسط، ولا بأس إذاً من التنسيق مع مرجعية سنية إقليمية جديدة، تؤمن تثبيتها شرق أوسطيا في مرحلة أولى، على ان تلعب هذه الدولة دور الوسيط بينها وبين إسرائيل في مرحلة لاحقةً.
أما مصلحة تركيا من مساعيها هذه فهي ليس طبعاً بدافع الحنين إلى العودة لعهود عثمانية غابرة، فتاريخها في التعامل الفوقي مع الشعوب العربية في هذه الحقبة ليست مشرفة لها، ولا تخدم أهدافها الحالية، بل هي أولاً بدافع خدمة مشروع إسلامي داخلي للحكومة التركية الحالية، وثانياً بهدف فرض ذاتها كمحاور لا بد منه تجاه أوروبا والولايات المتحدة بإدارتها الجديدة. من ناحية أخرى يهم إيران التعامل والتنسيق مع تركيا درأً لتداعيات الأزمة الكردية، والتي في حال تطورت أمنياً، سوف تربك السلطتين في البلدين الذين يحويان شرائح كبيرة من الشعوب الكردية.
أما إسرائيل فهي تفضل الدخول بهذا النوع من الحلف بالرغم من كرهها quot;ألكلاميquot; والمعلن لإيران، كون هذا الحلف يؤمن لها شكلاً جديداً من الحلول للملف الشرق أوسطي. يكون على يد أطراف لا يهمها كثيرا المحافظة على الحقوق العربية . فلا إيران هي معنية عربيا وquot;فعلياquot; بالحقوق الفلسطينية تجاه الدولة العبرية، ولا تركيا أيضاً وبالرغم من طابعها الإسلامي. أما السؤال وفي ظل بزوغ وتنامي معالم هذا المحور، فهو هل ينتقل مشعل الممانعة من المحور الذي يحمله لفظيا وحنجريا حتى الساعة، إلى حامليه التقليديين الأصيلين العرب، والذين قطعوا وعداً أمام ربهم بعدم التفريط بأي من الحقوق العربية المشروعة؟

كاتبة لبنانية
e.mail:[email protected]