المعرفة تصب في الهدف الذي كرسه المرء لها، و اذا ما كان إنسان ما شريرا فإن أي معرفة اضافية ستجعل منه اكثر شرا و اكثر قدرة على ايذاء الناس. لم يغفل الادب هذه الحقيقة فقد كان هناك مقابل كل شخصية معادية للشر و معادية للجريمة، لامعة و ذكية، شخصية اخرى لامعة و ذكية و لكنها تكرس ذكاءها لايذاء الناس كما في شرلوك هولمز و خصمه برفيسور مورياتي.
اذا ثقفت الجلاد العامل في مديرية الامن العامة جعلت منه اكثر مهارة في انتزاع الاعترافات من الناس الذين تعرّف على ثقافتهم، فإذا ما كانت الثقافة التي حاول الجلاد أن يتعرف عليها ماركسية جعلته يحصل على مكافآت من مرؤوسيه في محاربته للماركسية و الماركسيين على وجه التحديد.
لا شك ان رفاقنا وأصدقاءنا من الذين خاضوا النضال السري ضد النظام الديكتاتوري من الذين تعرفنا عليهم في اوائل السبعينات حين كنا مطاردين و بعد ذلك في الحملة الثانية على الحزب في نهاية السبعينات يعرفون هذه الحقيقة. فالكثير من رفاقنا يعرفون أن شبابا نحيلي الجسم معدمي الصحة يعانون ربما من العديد من الامراض قد صمدوا و قارعوا الجلادين ببسالة وبعضهم رحل عنا الى عالم الشهداء (الضحايا)، و في نفس الوقت انهار و وشى برفاقه احيانا رجال غلاظ ثخان مفتولي العضلات اشعلوا الشوارع بالهتافات و الصدامات.
و يعرف ابناء قريتي في بهرز القصص عن صمود (خ. م) الشاب الذي اكتشفنا باندهاش فيما بعد انه كان مسؤول كامل التنظيم في السنوات التي سبقت انقلاب عام 63، هذا الشاب الخجول الذي كان وزنه لا يزيد ربما بالكاد عن خمسين كيلوغراما.
الصمود بوجه الجلادين هو صمود فكري قبل كل شيء، فلا احد يضحي في سبيل شيء لا يؤمن به أو يشك في امكانية انتصاره.
لذلك فإن المهمة الاولى للجلاد هو تحطيم ايمان الضحية بالقضية، و لكي يفعل ذلك على احسن ما يرام يجب أن يكون عارفا ما هي المرتكزات الفكرية الأساسية للقضية، و هذا بديهي لان الذي لا يعرف النظرية و الفكر لا يستطيع تفنيده.
غالبا ما تلجأ الدول المتنافسة في مجال التسليح الى سرقة نماذج من سلاح الخصم من اجل صناعة سلاح مضاد كما كان يحصل في زمن الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي السابق و امريكا، فالطائرات التي هرب بها طيارون الى بلد حليف لهذا الطرف أو ذاك كانت موضع دراسة الخصم لصناعة سلاح مضاد، بدون معرفة السلاح لا يمكن صناعة سلاح مضاد، الأمر نفسه ينطبق على الفكر : لكي تحارب فكرا عليك أولا أن تتعرف عليه.
لكن الذي يحاول أن يجد تبريرا يقول أن الحزب لم يكن عند ذاك قد تعرض لضربه و أن منظمات الحزب كان سليمة (حتى الآن !!) يغفل حقائق كثيرة بديهية تثير التساؤل فعلا.
هل ان الموقف من نظام ما يُبنى على أساس موقفه من الحزب أم موقفه من الشعب وعموم القوى السياسية، موقفه من الديمقراطية و حقوق و كرامة الانسان... الخ !! أليس هذا مثيرا للعجب ؟
هذا ما فعله النظام السابق لقد سلح نفسه و سلح جلاديه بالنظرية لكي يتوصل إلى طرق تسفيهها و تحطيمها انتظارا للحظة المناسبة ثم قام اولا بتحييد الحزب و جعله متفرجا على تصفية القوى الاخرى بل جعله متفرجا على تصفية المستقلين ايضا و حين آن الاوان تم توجيه الضربة الى الحزب الذي بات مكشوفا تماما على عكس الضربات التي وجهت الى الحزب في العام 1963 و الضربات التي قبلها و التي فشلت في اخراج الحزب من العمل في الداخل و فشلت في تحقيق انتصار عليه.
الحزب مطالب بالدفاع عن الناس و ليس عن اعضائه ومطالب بالدفاع عن القوى الأخرى حتى لو اختلفت معه فكريا، حقها في العمل السياسي، على الحزب ان يستنكر اعتقال اعضاء من احزاب قد لا تتفق معه في نهجه الفكري، كما أن عليه ان يدافع عن حق الشخص المستقل في عدم الانتماء و يرفض اكراهه على الانتماء و بهذه الطريقة يسيج الحزب نفسه ويقلل من ضرر القمع ويحشد الناس حوله.
تثقيف الجلاد لن يحوله الى ثوري انما يحوله الى جلاد ماهر و ناجح.
ونجاح الجلاد في عمله أمر معروف العواقب بالنسبة للذين بقوا في الداخل وعانوا الامرين على ايدي جلادين مثقفين يعرفون أن يضربون : فكريا وجسديا.
وكان معروفا لدى الشهداء ـ الضحايا الذين هزمت أجسادهم ولكن ارواحهم لم تهزم رغم ثقافة الجلاد.
[email protected]