نعترف، وبكل احترام، بأنها لمن المرات القليلة، والنادرة، أن نرى اسماً لزعيم عربي في ساحة فكر وثقافة، أو يذيل مقالاً ما، وهو ما حصل في عدد يوم الإثنين في جريدة الشرق الأوسط اللندنية، بعنوان إسراطين.. حل الدولة الواحدة، وهي لعمري بادرة تستحق الثناء والشكر والتمعن والتأمل الطويل، بقدر ما تستحق من التقدير والتشجيع، علـّها تطوى دهور الفراق بين الشعب والزعيم.
وفي الحقيقة لقد عوّدنا سيادة الرئيس العقيد، دائماً، على تلك الخبطات المدوية، واختراقاته المتكررة للمحرمات الكلاسيكية والبروتوكولاتت السياسية والدبلوماسية العربية، وأراه اليوم يقتحم ميداناً جديداً في واحدة من تلك التحولات الكبيرة التي بتنا نعايشها في عالم اليوم، وعلى غير صعيد. وهي، بالمرة، فرصة نقتنصها لكي quot;نتزاملquot;، ولو لمرة واحدة، مع زعمائنا العرب على صفحات الفكر، بعد انزوائهم ورفضهم التاريخي لأي نوع من المشاركة والتزامل معهم في ميادين السياسة التي بقيت حكراً على quot;الزعيم الأوحدquot;، والذي كثيراً ما أطاح بعضهم بالآباء والأبناء والأخوة والورثة والأحفاد ورفاق الدرب والسلاح كرمى لعيني قدس الأقداس العرش والكرسي المفدى. وأنه لمن دواعي الفخر والثقة، ومدعاة للشكر في ذات الوقت، أن نرى زعماءنا العرب يدلون بآرائهم على صفحات الجرائد والمواقع والمنتديات، ويتنازلوا من quot;عليائهم التاريخيquot;، وبروجهم العاجية، إلى مواقع، كمواقعنا المتواضعة، التي كانت حكراً حتى وقت قريب على المشاغبين والمعارضين والمشاكسين. وبهذه الروح الرياضية quot;التزامليةquot; الصادقة والمستجدة، سنتوجه في مداخلتنا، وتعقيبنا، وليس ردنا، والتي لن تكون، بالمطلق أكثر من ذلك، إلى quot;الزميل الكاتبquot; العزيز معمر القذافي، وبعيداً عن اعتبارات السياسة ومقامات الكياسة، على أمل أن نرى quot;زملاءquot; زعماء عرب آخرين في ميادين الثقافة، وساحات النزال الفكرية، في العاجل القريب.

وقد نشارك، وقد لا نشارك، سيادة العقيد بعضاً مما جاء في حلـّه، ورؤيته التي نحترم، حتى وإن كانت تقع في باب الحلم والمستحيل أن تتعايش الأساطير، فهذا الصراع هو صراع الأساطير، وحروب التاريخ الكبرى كانت بدوافع محض أسطورية. ونظراً لذاك البعد الأسطوري الفاقع الكبير والقدسي الذي ينطوي عليه مجل الصراع في منطقة الشرق الأوسط. فالصراع ليس حول حيفا، ويافا، أو مساحات خالية من الأراضي هنا وهناك، وليست بتلك السهولة والتبسيط، والمنظور الإجرائي والسياسي المطروح، بقدر ما هو صراع حول الرموز الميثيولوجية والماورائيات المعقدة والمتناحرة التي تحرك وحدها عجلات التاريخ، كما عجلات الدبابات، وكما حركت ذات وقت سنابك الخيل، في هذه المنطقة، من العالم، الموبوءة بالأساطير، واختصت لوحدها بإنتاج الأنبياء، والقديسين، وأولياء الله الصالحين. وما لم تفكك كل تلك الأساطير، وترد إلى أصولها وجذورها البيئية الخاصة، وتدرس ظروف نشأتها الوجدانية، وينظر إليها في سياقها التطوري الفلسفي والتاريخي ومن رؤية واقعية وعلمية، فلن تعرف هذه البقعة التي تغلي على مراجل الأساطير أي نوع من السلام والعيش الرغد الهني. وما قد يستلزمه ذلك من إعادة تأهيل لأجيال بأكملها، لنزع فيروسات التطرف والتعصب الأعمى والرؤية الدينية من الشيفرات الجينية التي تتوارثها جيلاً بعد جيل. أي أن لا جيلنا ولا أجيال قادمة بعدنا، وعذراً شديداً من سيادة العقيد، قد تشهد تبلور ذاك الحلم والرؤية التي طرحها تحت عنوان إسراطين. فإذا كانت شعوب المنطقة نفسها لا تتعايش بفعل نفس تلك الرؤى الأسطورية الواحدة وتفسيراتها الإشكالية المختلفة، فكيف لها أن تتعايش من نمط quot;فظquot; وغريب ومبغوض، نصياً، من الأساطير. والأهم من هذا وذاك هو فك الارتباط التاريخي بين الكهنوت الديني المتسلط، ومافياته المستبدة، وبين أنظمة الحكم القروسطية الأبوية الشرق أوسطية التي تعمل في مختلف سياساتها السلطوية، وبشكل ممنهج، على تكريس وتنمية وتضخيم ذاك البعد الأسطوري وترسيخ الخلاص الماورائي الغيبي. فالقضية ليست قضية أرض متنازع عليها على الإطلاق، وإنما هي ببعدها الآخر والأهم، قضية تعايش وتفاهم مطلوب، بين المفاهيم الغيبية، وأساطير التاريخ.
فالقتل العشوائي والمنظم وبتلك السادية المفرطة التي تابعناها جميعاً، مؤخراً، لا يمكن أن يقف خلفه، ويحلله، ويجعله شرعياً سوى بعد أسطوري انتقامي وثأري يجعل من ممارسته تقرباً من ماورائيات وتبركاً وتجسيداً لأضغاث أحلام الملاحم والتاريخ، حاملاً معه في ذات الآن اعتقادات راسخة عن انتفاء أية مساءلة قانونية وجنائية جرمية عن مرتكبيه، لا بل يضفي على الفعل بحد ذاته شيئاً من البعد القدسي والعمل البطولي يقدم صاحبه بصورة البطل الخرافي. ألا نفرح جميعاً حين تروى علينا سيرة الانتصار المجلجل الرمزي والمقدس على الكفار والمشركين، رغم أن بعضهم كان من قريش، ومن بني عمومة لنبي المسلمين، ورغم ما في ذلك من زهق لأرواح، وهدر لدماء بشر آدميين؟ وهذا الأمر لا يتوقف علينا، أو عند جنرالات وعسكر بني إسرائيل الذين تعشش في أعماقهم وتحركهم قصص ومشاهد مضمرة في باطن اللاوعي الجمعي التوراتي عن قصص مثل إذلال اليهود والسبي البابلي، بل ينسحب على ساسة وزعماء في عمق الحصن الديمقراطي الغربي مازالت تتلبسهم العقيدة الصهيونية الإنجيلية التوراتية ببعدها الرمزي الأسطوري رغم حالة القطع quot;الرسميquot; المعلنة مع الكنيسة، لتنهار معها في قلب الغرب التنويري، منظومة متكاملة وأدبيات تاريخية عن حقوق الإنسان التي يقوم عليها البنيان السياسي الغربي برمته. وليس من المستغرب، أو من قبيل المصادفة، أبداً، أن اختفى أول ما اختفى من المتحف العراقي هو لوحة السبي البابلي ذاتها، التي يساجل بعض الخبراء والاستراتيجيين بأنها كانت الوقود الروحي التي حركت الجيوش وحاملات الطائرات والأساطيل نحو quot;بابل القديمةquot;، وليس العراق، والتي كانت تذكر، بقد ما تقرع، بني صهيون، ومن ورائهم من أتباع الكهنوت التوراتي، بذلهم التاريخي ومأزقهم الأسطوري.
نثمن عالياً تلك الرؤية الإنسانية التي قدمها سيادة الأخ العقيد، وأتت في صلب رؤيته، وقد تكون ناجحة وناجعة إذا ما أخذت ببعدها السياسي الإجرائي الروتيتي المجرد وكقياس على حالات وكونفيدراليات أخرى في غير مكان، غير أنها ستصبح حتماً، عبثية ومحاولة عصية ومستحيلة، وبدون أي قيمة وفاعلية تذكر، إذا ما أغفل بعدها العقائدي والإيديولوجي، وإذا ما نزع عنها غطاؤها الرمزي والإسطوري. وسيبقى الصراع قائماً، إلى ما شاء الله، ما بقيت، وما لم تتصالح مع بعضها الأساطير.
وتقبلوا منا فائق الاحترام والتقدير سيادة الأخ العقيد