من العبارات التي كانت شائعة بين المنتمين لتيار الإسلام السياسي أثناء الحرب الإسرائيلية على غزة، أنّ الدفاع عن الفلسطينيين في مقابل آلة الحرب والقتل الإسرائيلية هو دفاع عن الإنسان قبل أي شيء آخر، في حين يعلم الجميع أن هذا التيار لم يكن يعتبر تلك الحرب مثل الحروب الأخرى في العالم، إنما كان يعتبرها حربا دينية بين طرفين أحدهما مسلم والآخر يهودي مما ينفي كونها حربا للدفاع عن الإنسان الفلسطيني المدني أو نصرة لحقوق الإنسان وفق المفهوم الحديث، بل كان الهدف هو نصرة الفلسطيني المسلم على الإسرائيلي اليهودي انعكاسا للرؤية الدينية في الحروب والمستندة إلى حتمية نصرة المسلم على غير المسلم وبالذات اليهودي. فلو كان ذلك التيار يدافع حقا عن الفلسطيني لكونه إنسانا تعرض للظلم والقتل والدمار والتشريد، لكان تأثر بأي ظلم أو قتل يتعرض له المدني على الجانب الآخر من المعركة، ونقصد بذلك الإنسان الإسرائيلي. وقد كان هناك بين الإسرائيليين من عارض الحرب على غزة وخرج في مظاهرات في عدة مدن إسرائيلية للتنديد بالسياسات الحربية لحكومة أيهود أولمرت وطالب بوقف العمليات العسكرية، لكننا في المقابل لم نسمع صوتا إسلاميا في أرجاء العالم يحمّل حركة حماس جزءا من مسؤولية القتل والخراب والدمار الذي كان يتعرض له الشعب الفلسطيني في غزة، على الأقل التنديد بوضع الحركة منصات إطلاق الصواريخ بين منازل السكان الفلسطينيين العزل، أو تخزين السلاح وسط السكان، أو اختباء قيادات حماس العسكرية بين المدنيين، وقبل ذلك إطلاق الصواريخ غير الفاعلة على المدن الإسرائيلية قبيل الحرب. واعتقد أن عدم ارتباط ثقافة تيار الإسلام السياسي بمفهوم حقوق الإنسان يشكّل جزءا كبيرا من المشكلة.


يعتبر المفهوم الحديث لحقوق الإنسان أحد مغانم تطور الحياة البشرية الحديثة ونتيجة مباشرة للثقافة العلمانية الجديدة، وهو مفهوم حديث وليس مفهوما دينيا وتاريخيا مما يجعل تيار الإسلام السياسي يبتعد مسافات عن المزاعم التي تدعي بأنه مساهم في صناعته. لذلك لايستطيع هذا التيار أن يحترم المفهوم ويجعله جزءا من منهجه، أو أن يمارسه على أرض الواقع، بل جل ما يستطيع فعله هو استغلاله كلما حتّمت الظروف ذلك. بمعنى أن موضوع حقوق الإنسان لايعتبر همّا أساسيا في أجندة تيار الإسلام السياسي، إنما يستخدمه كلما اقتضت المصلحة. وتلك الرؤية تثبت أن التيار لن يهتم بموضوع حقوق الإنسان أثناء الحروب وفي غيرها من الظروف إلا إذا تفاعلت مصالحه مع الموضوع. لذلك هو لن يركز اهتمامه على محاور حقوق الإنسان الرئيسية بل سيضع أصبعه على الجوانب التي تحقق أهدافه الضيقة، لأن الدفاع عن حقوق الإنسان بصفة عامة، وليس عن الإنسان المسلم الذي يواجه الآلة العسكرية اليهودية، لا يدخل في ثقافته ولا يشكل مصدر فقهه وفتاواه. بمعنى أن العلاقة الوحيدة التي تربط الإسلام السياسي بمفهوم حقوق الانسان هي علاقة فعل ورد فعل مصلحي بحت. والإسلام السياسي، بسبب استناد فقهه إلى ثقافة تاريخية لا تعي المفهوم وفق صورته الراهنة الحديثة، لايستطيع أن يزرع في فقهه ثقافة تدافع عن عامة الناس وحقوقهم، إنما همّه الرئيسي، خاصة في ظل وجوده مقابل عدوه الإسرائيلي، يتركّز على الدفاع عن المسلم حتى لو صدرت عنه انتهاكات وسوءات وأكاذيب، في مقابل مهاجمة الآخر غير المسلم مهما خرجت من بين ثناياه أصوات تدافع عن حقوق الإنسان المسلم. أي هو بعبارة أخرى يتبنى ثقافة عنصرية تصنع التمييز وتؤسس للإكراه. لذلك، من الطبيعي ألاّ نجد في مشاريع تيار الإسلام السياسي اهتماما رئيسيا بقضايا حقوق الإنسان، بل نجد اهتماما ثانويا تقتضيه المصلحة على حساب المبدأ. فمثلا لا نجد لدى تنظيمات الإسلام السياسي أوحتى لدى أفراده المستقلين اهتماما بإنشاء مؤسسات للدفاع عن حقوق عامة البشر وفي مختلف مجالات الحياة، كما لا نجد نائبا من نواب الإسلام السياسي في مجلس الأمة الكويتي على سبيل المثال أو من المنتمين إلى لجنة الدفاع عن حقوق الإنسان قد تبني قضية إنسانية مجردة من صفتها الإسلامية الدينية.


وعلى أنه لا توجد لدى تيار الإسلام السياسي رؤية واضحة تجاه العالم الحديث وتجاه الإنسان الجديد، فإن ذلك جعل تفسيرها للدين تفسيرا غير حداثي مناهضا لقيم الحياة الجديدة وبالذات بشأن الإنسان، بالتالي أصبح التفسير مناهضا للرؤية الحقوقية الحديثة ومعبرا عن رؤية تاريخية لا تهتم سوى بتركيب الماضي الديني الإسلامي على الحاضر المدني الحديث حيث فضّل الدفاع عن الدين ولو كان على حساب الإنسان ومصيره. إن وجود تصوّر حول العدل والظلم الجديدين، اللذين يختلفان عن العدل والظلم بالمفهوم الديني القديم، ووجود رؤية حديثة حول الحسن والقبح، هو ما يفتقده فقه الإسلام السياسي في الوقت الراهن، لأن وجود تصور جديد حول تلك المفاهيم من شأنه أن يدفع بالفقيه إلى إيجاد قراءة جديدة للدين تتماشى مع العدل والظلم الجديدين وتتقاطع مع الحسن والقبح الحديثين، والتي من المفترض أن تتفق مع مفهوم حقوق الإنسان بحيث تحترمه وتدافع عن قضاياه لتسير جنبا إلى جنب ما يفترض أن يسير عليه الفقه في أن يكون حديثا وعادلا. لذا لابد أن تتغير نظرة الفقه تجاه الإنسان كإنسان، لاستبدال النظرة التاريخية الدونية إلى نظرة حقوقية يكون العنوان الرئيسي فيها هو الدفاع عن الإنسان كإنسان، وليس عن المسلم مقابل غير المسلم. ليس ذلك فحسب، بل حينما يبرز إلى السطح صراع ديني - علماني ليبرالي أو صراع سني - شيعي، نجد أن احترام الإنسان للإنسان كإنسان ليس له وجود في أجندة التيار الديني. فنظرة الفقه إلى - مثلا - المرتد لا تزال نظرة غير إنسانية لأنها نظرة تاريخية قديمة تستند إلى ما قاله النص الديني في ذلك الزمان من أن حقوق الدين وحقوق الله أهم من حقوق الإنسان، بالتالي تعبر تلك النظرة عن موقف يتصادم مع المفهوم الحديث لحقوق الإنسان ومع التعددية. كذلك لو تمعنا في النظرة الفقهية إلى الكافر والملحد والمسيحي، وفي نظرة الفقه السني أو الشيعي إلى بعض الطوائف الإسلامية، كالمتصوفة والإسماعيلية والزيدية، سنجدها تصب في نفس الإطار.


ولأن التيار الديني لا يرى الله أو يفهم كلامه من خلال عين إنسانية، فإنه لا يزال بعيدا عن أنسنة الدين والمعرفة والفهم، وعن أنسنة الموقف من الأحداث. وباعتقادي فإن ذلك هو معضلة رئيسية أخرى يعاني منها هذا التيار. ففي زماننا أصبح الإنسان محور جميع الأمور وأصبحت حقوقه عنوان مختلف القضايا من سياسية واقتصادية واجتماعية وفكرية وثقافية وغيرها. فحقوق الإنسان تتقدم في الأهمية على حقوق الله، بمعنى أن الدفاع عن حقوق الإنسان يؤدي بالضرورة إلى رضا الله، وأن الإضرار بحقوق الإنسان يؤدى بالضرورة إلى سخط الباري وعدم رضاه. والأخلاق المتعلقة بحقوق الإنسان تأتي في مرتبة أعلى من الأخلاق المتعلقة بحقوق الله. لماذا؟ لأن احترام القيم الإنسانية، وفق النظرة القيمية الإنسانية الحديثة، هو مقدمة ضرورية للإيمان بالله، فهي - أي القيم الإنسانية - تعتبر منبع الأخلاق، بالتالي هي إحدى الطرق نحو فهم أعمق بالله. والتدين أو بناء علاقة روحية مع الباري في إطار ظروف الحياة الراهنة من دون أن يسبق ذلك احترام حقوق الإنسان، قد يتشابه مع أي مسعى معنوي غير واقعي لا يمت بصلة بظروف الحياة ولا يستطيع تحقيق أي قيمة أخلاقية فيها. فالتدين الذي يتشكل في الحياة الجديدة أو في ظل الحداثة، لابد أن تكون له أهداف متعددة يقع في إطارها تحقيق الفضائل الأخلاقية الواقعية، ومن تلك الفضائل احترام حقوق الإنسان وفق منظورها الحديث. في حين أن التديّن الذي لا تكون محصّلته تحقيق تلك الفضائل، لن تكون مخرجاته إلا سلوكا تاريخيا لا يخدم ظروف الحياة، وفي أغلب الأحيان قد يشكل تهديدا للأمن السياسي والاجتماعي.

فاخر السلطان

كاتب كويتي
[email protected]