مايؤرق النفس ويقض المضجع هو التحليل الخاطىء والمتاجرة بالكلمة والموقف اللامسؤول وكأننا إزاء سيناريو محتوم ينبغي علينا جميعاً أن ننقاد لإرادته الخفية.

إذ ما يجري الآن في مدينة غزة، وهذا الأجتياح الإسرائيلي الخطير، لايدعو إلى الأستغراب على الإطلاق، وذلك إذا أدركنا طبيعة المشكل في العلاقة ما بين ذهنيتين مختلفتين متعارضتين موجودتين فعلياً على الساحة السياسية الفلسطينية. فإسرائيل ولأسباب عديدة ما برحت لاتعتقد ولاتؤمن بالقيمة الحوارية في دمقرطة المسألة الفلسطينية، ولاتقتنع بأهم سبب أنطولوجي في إضفاء سيرورة منطوق المدنية على العلاقة مابين دولتين، أسرائيلية وفلسطينية، تلتزمان بالضرورة بالعيش المشترك، وبالحدود المجاورة، ولابديل لها إلا الوهم والتوهم، وما مكثت تهب الأفضلية والأسبقية القصوى للنفوق في قدرة العسكرتاريا، ذلك التفوق الذي لايستحوذ إلا على قيمة نسبية عبر المراحل المختلفة في التاريخ. وهذا التصور الإسرائيلي يتمتع بإشكالية خطيرة قد تقذفنا جميعاً إلى هاوية الجحيم وقعر السعير، لأنه من زاوية يغذي منطوق وخطاب الإرهاب والعنف والتطرف ليس لدى الطرف الفلسطيني فقط، إنما في ساحة الشرق الأوسط قاطبة، ولأنه من زاوية ثانية يعوق ويعرقل المد الديمقراطي للقوى المحبة للسلم والسلام قي المنطقة ويلجم دورها الرائد. أما السلطة الفلسطينية الحالية فهي تقترف جملة أخطاء تاريخية مختزلة في سطوة التفرد لدى بعض الشخصيات الأمنية القيادية، كما إنها لم تفلح في أقناع الشارع الفلسطيني والإسرائيلي والعربي بدورها القيادي وتجسيدها للمسألة الفلسطينية، وكأنها ليست الطرف الوحيد الشرعي في المفاوضات مع أسرائيل، أي بتعبير دقيق هي ndash; السلطة الفلسطينية - لاتمارس ( علم السياسة )، إنما تمارس أعمال سياسية، ودليلنا الأكيد مؤخراً وليس أخيراً هو موقفها من الإجتياح الإسرائيلي لمدينة غزة.

أما حركة حماس، المولود التاريخي المشوه، المؤتلف أصلاً من بؤرة المشروع الإيراني وإرادته التوسعية والسيطرة على منطقة الشرق الأوسط، لاتفقه إلا دورها التخريبي للمسألة الفلسطينية، ولاتكترث إلا بتقوية الدور الإيراني لو على حساب دماء أطفال ونساء وشيوخ غزة، لو على حساب معادلة الأمن القومي للمنطقة برمتها. أما الآن وقد أجتاحت إسرائيل قطاع غزة، وهذا ما تمنته إيران، فإنها أنضوت رغماً عنها تحت سحاب المعادلة السياسية الإيرانية، فما بعد غزة سيختلف جذرياً وراديكالياً عما قبلها، وهي، أي إسرائيل لاتملك سوى إما المضي قدماً في القضاء على حركة حماس، وإما الإعتراف الضمني بواقع الحال كما حدث في صيف 2006 في الجنوب اللبناني مع حزب الله. ففي الحال الأولى، من المؤكد إن إسرائيل لاتستطيع القضاء على حركة حماس لوجود مشكلة إنسانية في غزة، ولإن العقل الشرق أوسطي مابرح عاطفياً إرتجالياً، ولإن قيادة حماس لاتأبه بالنتائج ولابالدماء ولا بالمجازر ( حتى لو أبيدت غزة برمتها، فأننا سنصمد، هذا هو منطق المقاومة والصمود لدى إيران وحماس!!)، ولإن السياسة الإقليمية والدولية لم تتحرر بعد من المرتكزات الخاطئة في الفكر السياسي التاريخي الحالي ( الجاهل ) العاقر.

أما في الحال الثانية، فإن إسرائيل سوف تفتح لهيب جهنم، وسعير خطاب لعين، ونفاق مشمئز مقرف على نفسها وعلينا وعلى الشرق الأوسط المنكوب المكلوم المثكول. وهنا أحبذ، عند هذا التحليل، أن أسرد عدة نقاط أراها ضرورية، النقطة الأولى : إن إدارة الصراع الذي يسمى الصراع العربي الإسرائيلي لايرتقي إلى المستوى المقتضى، ولايتوسم في ذاتها إلا المواقف الآنية الأعتباطية الجزافية، بل أكاد أن أصفها بالفاشلة، ونسبة الفشل أوزعها بالتساوي مابين خمسة أطراف أو جهات، إسرائيل، السلطة الفلسطينية، الحكومات العربية التي لم تنتهج موقفاً حاسماً من سورية وإيران، سورية وإيران وحماس وحزب الله، الجماهير الحمقاء على حد تعبير الأخ شاكر النابلسي وكتابها. ثم إني لو تجاسرت لقلت إني ما رأيت مقالاً أو موقفاً قط يعالج منطوق الصراع في تشخيصه الدقيق، في طبيعته الموضوعية، في حله الملائم والموائم لكل الأطراف، وها نحن منقسمون، بصدد هذا الإجتياح، إلى فلقيتن، فئة تشدو لحماس بخطاب جاهل مقيت، وفئة تهجو حماس بخطاب غير مثمر. النقطة الثانية : ينبغي أن نقر ونعترف ونعي إن الحيثيات الحالية والمعطيات المرئية في الأفقين المنظور وغير المنظور تؤكد علم اليقين إن ( القوى الفلسطينية ) بكافة أطرافها غير قادرة على الوصول إلى حل نهائي مع الطرف الإسرائيلي، وأنا هنا لاألمح إلى الأنقسام في الشارع الفلسطيني ما بين حركة حماس ومنظمة التحرير الفلسطينية، إنما طبيعة المشكل والإشكال ما بين الطرفين ( الفلسطيني والإسرائيلي ) لايمكن أن تصادف الحل التاريخي المرام و المبتغى لإنها تتجاوز الطرفين على السواء، ولوجود معضلة، على الأقل، غير قابلة للأنفكاك ما بين الطرفين وهي مشكلة مدينة القدس الشريف. النقطة الثالثة : ينبغي أن تدرك إسرائيل تمام الإدراك، دون لبس وألتباس، دون غموض وأبهام، إنها تعيش الآن في نقطة فضائية هي خارج زماننا، خارج تاريخنا، خارج جغرافيتنا. فهي تنتمي إلى موسوم آخر، إلى قشعريرة تختلف عن تلكنا، ولامندوحة أن تؤوب يوماً ما إلى نقطة فضائنا، حيث زماننا، تاريخنا، جغرافيتنا، آلامنا و آمالنا. وهذا الإياب لايمكن أن يحدث وهي تملك هذا العقل العسكري، وهي تبني هذا الجدار الأرعن الأخرق الممقوت من الدم، وهي تفرض تفسيرها الخاص بها على كل مجريات الأمور في المنطقة وتصادر عقلنا، حريتنا، جوهرنا. هذا لايعني أننا نعادي عقلها، جوهرها، حريتها، بل على النقيض نحن ندعوها، وهي أيضاً ينبغي أن تدعونا، إلى منح الحياة لهذا (العقل، الحرية، الجوهر ) المشترك، في نقطة فضائنا المشتركة. النقطة الرابعة : ليس من المألوف لدي أن أهول القضايا، أو أن أقييم المسائل خارج تأصيلها اللصيق بها، لكن هنا أقرع ناقوس الخطر، هذا الغول الإيراني الداهم الذي أوشك أن يصفد جوانحنا ويغل أطرافنا سوف، في حال تحققه، يفترس فضاءنا ويلتهم مستقبلنا. وإذا ما تداركنا هذه الخطورة اليوم قبل الغد فأننا نرهن مستقبل المنطقة للمشروع الإيراني القومي. ذاك المشروع هو أس الفكر الإيراني الحديث والقديم، هو قوام الوجود الفارسي، هو مرتكز معتقده، هو المرتجى في بسط سطوة معادلته الخاصة على المنطقة، لذلك هي تجاهد دون كلل أو ملل لتقوية تلك المعادلة غير مكترثة بالنتائج الوخيمة التي تنجم منها هنا وهناك ( عراق، غزة، لبنان، سورية، دول الخليج ). وللأسف ثمة شخصيات متعددة في العالم العربي غافلون عن هذا المشروع ويراهنون على هذا الخطاب الإيراني المزور، لكنهم لايبصرون إلا السراب، حتى أنوفهم لايرون. فإيران لاتعادي إسرائيل ولا الولايات المتحدة إلا لإنها تدرك إن هكذا خطاب يقربها من الشعور العربي العام. النقطة الخامسة: ليست إيران وحماس وحزب الله هي الجهات الوحيدة المسؤولة عن إهراق وإراقة هذا الدم النقي السخي في غزة، فالنظام السوري يعقد صفقات وعقود تجارية على هذا الدم، وهو الذي يورط الفلسطينيين فيما يسمونه زوراً وبهتاناً بالمقاومة، ويحرض الإسرائيليين من زاوية أخرى على ذبحهم، لكي ينجوهو بنفسه ويتعشش على هذا التواطىء والتآمر. ونحن نعلم تمام العلم إنه لايكترث بتلك الدماء وإنه يطلب منها المزيد رغم تباكيه عليها تستراً ونفاقاً. وينبغي أن يدرك هذا النظام إن أمره بات مفضوحاً، وإن إسرائيل لن تحميه من السقوط إلى الأبد، وإن الشعب السوري والشعب الفلسطيني الشقيق لن يغفرا له ماأقترفت يداه، ولن يسامحاه مطلقاً على بيعه سورية لأيران. وسوف يأتي دهر يندم فيه هذا النظام أشد الندم وعندئذ لن ينفع هذا الندم لإن الأمور تكون قد وصلت إلى النهاية البشعة المشؤومة. النقطة السادسة : بما إن الشرق الأوسط الجريح لايمكن أن يستمر في العيش في هذه الأوحال القذرة إلى الأبد، فلامناص من الشروع في بداية حل قد يرضي الجميع. وبما إن الأساليب القديمة قد أثبتت عقمها، فلابد من أسلوب جديد يفرض على كافة الأطراف بكل حزم وقوة. وأنطلاقاً من النفاط الخمسة التي أتينا على ذكرها، أنني أرى ضرورة عقد أجتماع خاص يشارك فيه حصراً وفقط، خادم الحرمين الشريفين جلالة الملك عبد الله بن عبد العزيز، فخامة الرئيس المصري محمد حسني مبارك، سعادة الرئيس الأمريكي القادم باراك أوباما، السيد رئيس الوزراء الإسرائيلي أيهود أولمرت، سيادة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، والسيد محمود عباس كونه الرئيس الفلسطيني الشرعي والفعلي. شريطة أن تتم المعالجة على مرحلتين، في المرحلة الأولى لابد من تحييد مفهوم الصراع وتحويله إلى مفهوم أختلاف في الرؤية والشروع في إقامة الدولة الفلسطينية دون قيد أو شرط على قطاع غزة والضفة الغربية ( مع إبقاء وضع مدينة القدس الشريف للمرحلة الثانية ) تحت سيادة الرئيس الفلسطيني وبحماية الأطراف الأخرى الفعلية. وفي المرحلة الثانية لامحيص من معالجة القضايا الصعبة وإيجاد حل لايبخس أحداً حقه، وترك أمور الدولة الفلسطينية، فيما بعد، لأهلها دون تدخل من أحد.

هيبت بافي حلبجة