لا أحدا يقبل أبداً بالاعتداء على المدنيين والمسنين والنساء والأطفال الأبرياء العزل في قطاع غزة، ولا أحداً يرضى بإهدار دماء المئات منهم، ولا أحداً يمكنه أن يبرر ما يحدث هناك من هجمات وحشية من قبل الطيران الإسرائيلي. في الوقت ذاته لا يمكن أبداً القبول باستغلال حركة حماس للموقف الأنساني المأساوي في القطاع، الذي تسبب فيه زعماء الحركة بسياساتهم المتطرفة الرعناء وغير المسئولة، لتحقيق مكاسب في صراعهم مع السلطة الوطنية الشرعية في الأراضي الفلسطينية.

قاد زعماء حركة حماس شعب قطاع غزة إلى المحرقة الحالية بعدما رفضوا بغرور وصلف كبيرين الإنصات لصوت العقل والموافقة على تجديد هدنة وقف إطلاق النار المؤقتة مع إسرائيل. ربط الحمساويون تجديد الهدنة بفتح المعابر رغم علمهم بأن إسرائيل لن تقبل بفتح المعابر طالما بقيت حماس تنتهج نفس السياسات الحمقاء التي انتهجتها في السنوات الماضية. ورفض زعماء حماس الاستماع لنصائح العالم الغربي والسياسيين العقلاء القليلين جداً في العالم العربي وقرروا المضي قدماً في المواجهة مع إسرائيل التي استأنفوا إمطارها بالصواريخ. كان زعماء حماس يدركون تماماً أن إسرائيل، التي لا تتسامح أبداً مع مهددي أمنها، كانت سترد على عمليات أطلاق الصواريخ عليها من دون رحمة. ورغم ذلك مضى الزعماء الحمساويون في خططهم التي أدت إلى إزهاق حياة المئات من الغزاويين.

كان للهدنة بين حماس وإسرائيل إيجابياتها على الرغم من اقتناعي التام بأن قادة حركة حماس لم يؤمنوا بالوقف المؤقت لإطلاق النار بين الجانبين كطريق للسلام الشامل وإنما استخدموه لتحقيق أغراض تكتيكية في الصراع مع إسرائيل. نجحت الهدنة في الماضي في إعطاء المنظمات الإنسانية فرصة في توصيل الإعانات والمساعدات الغذائية للغزاويين الذين يرزحون تحت حكم حماس، كما نجحت في تهدئة الأجواء وإعطاء مفاوضي السلطة الوطنية وإسرائيل الفرصة لاستنئناف مفاوضات السلام.

لم يتعرض الأعلام العربي من قريب أو من بعيد للدور الحمساوي الأرعن الذي قاد إسرائيل إلى شن الحملة العسكرية القاسية على قطاع غزة. ولم يجرؤ قلم أو لسان في العالم العربي على انتقاد قرار زعماء حماس برفض تجديد الهدنة مع إسرائيل. لم يكن غريباً أن يتعامل الإعلام العربي الرسمي والمستقل مع الأحداث في غزة على أنها فقط وحشية إسرائيلية غير مبررة وأن يتعامى عن الأسباب التي قادت إليها، فالإعلام العربي السيء والمضلل، والذي لا يجب بحال من الأحوال تصديقه أو الوثوق به، لا يتمكن عادة من توصيل رسائله التضليلية من غير الكذب والمبالغة ولي الحقائق.

لم أجد خيراً من تعليق أدلى به أحد الإعلاميين المشهورين في اليوم الأول لعملية quot;الرصاص المصبوبquot; للتدليل على الدور السيء الذي يقوم به الإعلام العربي في إلهاب مشاعر الجماهير العربية وحقنها بالتطرف وتغذيتها بالروح الانتقامية. قال الإعلامي الشهير أنه يتمنى أن يقوم فلسطيني بعمل quot;غبيquot; أو quot;انتحاريquot; في تل أبيب للانتقام لأرواح الفلسطينيين الذين لقوا حتفهم في العمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة..

ومن ناحية أخرى كانت الاتهامات التي وجهت إلى مصر بالتآمر مع إسرائيل من الدلالات المهمة على الدور التضليلي للإعلام العربي. فالجميع كبار وصغار، يمينيون ويساريون، عاقلون ومجانين يعون أن مصر لم تحابي أبداً الإسرائيليين أو تجاملهم على حساب الفلسطينيين. بل أن مصر لم تلتزم كثيراً بتعهداتها بعلاقات ثنائية طبيعية مع إسرائيل التي فرضتها عليها اتفاقية كامب ديفيد، واستخدمت مصر التزاماتها تجاه السلام كوسيلة ضغط على ضغط على إسرائيل للانخراط في مفاوضات سلام شامل مع الفلسطينيين والسوريين. ولكن الغافلين أو المتغافلين استغلوا علاقة مصر بإسرائيل في الهجوم على نظام الرئيس حسني مبارك لإحراجه أمام شعبه وأمام الرأي العام العربي.

أوضح الهجوم الإعلامي العنيف الذي شنه الحاقدون على السلام الذي تتمتع به مصر مع إسرائيل مدى العداء الذي يكنونه لفكرة السلام. ولعل هذا يشير إلى حجم المصاعب التي تواجه وستظل تواجه العملية السلمية في الشرق الأوسط. فأعداء السلام في المنطقة العربية فضلاً عن حيازتهم لأدوات قادرة على التخريب والترهيب فإنهم يملكون أيضاً حنجرات قوية قادرة على إحداث الضجيج الكافي والتشويش اللازم لتعقيد عملية السلام وتجميدها بل وعرقلتها تماماً.

من المؤسف أن تسود العالم العربي روح معادية للسلام، ومن المؤسف أيضاً أن يمتلك زعماء من عينة حسن نصرالله وخالد مشعل وبشار الأسد وأحمدي نجاد تأثيراً كبيراً على الرأي العام العربي ونفوذاً عظيماً في توجيهه وتشكيله، ومن المؤسف أن يتولى الإعلام العربي مجموعة من المضللين السيئين الذين يعتمدون الكذب ويلوون الحقائق.

إذا كان اللوم يكال لإسرائيل لحملتها العسكرية العنيفة ضد الفلسطينيين في غزة، فإنه من المؤكد أن حركة حماس هي المسئولة الأولى والوحيدة عن المحرقة التي نصبت للفلسطينيين هناك. لم تعبأ حماس بالدماء الفلسطينية المهدرة، بل أنها تعاملت معها على أنها وسيلة رخيصة لتحقيق آهدافها السياسية. ولقد أدركت إسرائيل أن حماس لا تهتم تماماً بقيمة الدماء المهدرة فأخذت في شن هجماتها الشرسة ضد أهداف حماس غير عابئة بدورها بسقوط ضحايا مدنيين من الفلسطينيين العزل.

إن الدماء الفلسطينية البريئة التي تهدر يومياً في غزة يتحمل مسئوليتها قادة حركة حماس السيئين. وليت قادة حماس تعلموا أهمية وقيمة شعبهم من إسرائيل التي تدفع الغالي والنفيس لحماية شعبها والتي لا تتورع عن القيام بكل ما في استطاعتها للدفاع عن أبنائها، وليت قادة حماس تعلموا أهمية وقيمة الإنسان من قيام إسرائيل الدائم باستبدال عدد محدود من جنودها الأسرى أو جثثهم بالآلاف من الأسرى الفلسطينيين أو العرب.

لن ينصلح الحال في الأراضي الفلسطينية، ولن ينال الفلسطينيون حقوقهم المشروعة في وطنهم طالما بقيت حركة حماس تتحكم في مصائر الفلسطينيين في قطاع غزة. وربما حان الوقت الأن لثورة غزاوية سلمية، مدعومة عربياً ودولياً، لعزل من حماس من موقع السلطة الذي استولت عليه بعد انقلابها على السلطة الفلسطينية الشرعية. فوجود حماس على رأس السلطة في غزة لن يأتي إلا بالمزيد من المحارق والمهالك والكوارث للشعب الفلسطيني المغلوب على أمره هناك.

جوزيف بشارة
[email protected]