بينما يتم ذبح غزة من الوريد الى الوريد كما ذبح العراق في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي وما زال يذبح منذ اكثر من خمس سنوات، وكما يحاولون اغتيال لبنان الحضارة والانسان ينبري المزايدون والراقصون في حمامات دماء الشعوب وعلى اشلاء الابرياء من الاطفال والنساء بمزايداتهم الكاذبة وشعاراتهم الطنانة واسلحتهم التي تشبه دمى الاطفال والالعاب النارية، ثم يخرجون ليتحمدوا الله (البرئ منهم ومن اكاذيبهم) على انتصاراتهم الخائبة وبقاء منظماتهم وانظمتهم السياسية وقادتهم الميامين!؟
لم يعد خافيا على الجميع أسلوب المزايدات الذي أنتجته نظم الاستبداد منذ قيام دول سايكس بيكو إثر انهيار امبراطورية آل عثمان وتوزيع ممتلكاتها من الولايات على الورثة الجدد الموقعين على الاتفاقية وما تلاها من معاهدات واتفاقيات في عشرينات القرن الماضي وحتى يومنا هذا، ومع تقادم الزمن وتكلس الآلام وشيوع الاستكانة والخنوع لدى أجيال وأجيال من أبناء وبنات المنطقة والعراق بالذات، وتحول ذلك الأسلوب إلى صفة ملازمة لكثير من القطاعات الملاصقة أو القريبة من مراكز القرار في كل مفاصل الدولة ومؤسساتها وتركيبات المجتمع وطبقاته، وما تحمله تلك الصفة من مظاهر التملق والتدليس وتأليه الما فوق وتضبيب الرؤيا وتشويه الحقائق حتى غدت ظاهرة المزايدات لدى الكثير من الناس هي الطريق الأقصر للوصول إلى الأهداف الخاصة وربما العامة.
وقد أبدع النظام السابق في تطوير المزايدات وتعميمها حتى ظن الكثير إنه دولة عظمى تمتلك إرادة القرار وأسلحة الانتصار كما أوهمنا جميعا بامتلاكه أسلحة تحرق نصف إسرائيل وتحول النصف الثاني إلى جواري وغلمان لفرسان الأمة وصناديدها، وحتى عشية الحرب الأمريكية على النظام كان الرفاق يتحدثون عن مفاجآت رهيبة وأسلحة مرعبة سيستخدمها القائد في اللحضة المناسبة، ويتذكر العراقيون جيدا مقولات الرئيس السابق عن كيفية معالجة طائرات الشبح الأمريكية وكيف سينتحر الجنود الأمريكان على أسوار بغداد، وقبل ذلك ما كان يوحي به النظام من تصنيعه وتطويره لأسلحة تتجاوز ما أنتجته كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي.
والطامة الكبرى حينما كانت الأكثرية تصدق هذه المزايدات من نظام يقود دولة أكثر من نصف سكانها لا يجيدون القراءة والكتابة وربما نصف سكانها من الفقراء والمساكين، المغيبين والمسطحين، وأكثر من نصف تعداد جيشها من الفلاحين ألاميين الخارجين عن الزمن، وما تبقى من المغلوبين على أمرهم، المساقين عنوة وانكشارية، وربما أكثر من نصف سكانها يسكنون في أكواخ وأعشاش لا تليق بالصنف البشري، وأكثر من ذلك لو فتحنا آلامنا المتكلسة منذ عقود طويلة ومؤلمة، سواء تلك الآلام التي تقرحت وتركت تشويهات في السلوك والانتقام والأحقاد من لدن سكان الريف والقرى التي سحقت وأهينت وأبعدت عن مراكز الحضارة بإغفالها وتكريس تخلفها وتجهيل سكانها مما أدى إلى نزوح مرعب إلى المدن وتشويه هوياتها وتحويل أولئك النازحين من القرى إليها إلى أدوات لتنفيذ مشاريع الأنظمة السياسية المتخلفة من خلال تسطيح ثقافتها وربطها برأس النظام السياسي ومزايداته. أو في المدن التي غدت هي الأخرى مرتع للجهلة وأنصاف المثقفين وخليط مقزز من الأفكار والأيديولوجيات المستنسخة والقابلة للتغيير حسب أمزجة القائد الضرورة وامثاله هنا وهناك.
لقد تحولت المزايدات ( الوطنية ) و ( القومية ) و ( الدينية ) إلى واحدة من أخطر ما يواجه مجتمعاتنا إلى حد هذا اليوم، فقد سادت هذه الظاهرة في أدبيات الساسة وحتى الكثير من المناضلين ورجال الدين وعلمائه، حتى غدا الواحد منهم مرجعية إلهية لايمكن الاعتراض عليه أو منافسته، ويتذكر العراقيون جيداً مدرسة المزايدات طيلة أكثر من أربعين عاما من الحكم ألبعثي للعراق وكيف إنهم أي البعثيون ورثة رسالة خالدة ومن يقف في طريقهم أو يختلف في طروحاته معهم فأنه خائن للأمة والشعب ويستحق على ذلك الموت الزؤام، وهكذا فعل ويفعل الكثير من رجال الدين وعلمائه في تكفير الآخرين وإلصاق تهم الإلحاد والردة والخروج على شريعتهم لكل من يخالف طروحاتهم وتفسيراتهم للنصوص الدينية.
ولم تقتصر تلك المزايدات على العراق وحده بل تخطت حدوده الجغرافية إلى ( أشقائنا ) في جيبوتي واريتريا وجزر القمر والصومال وطنب الكبرى والصغرى والسودان وتشاد وفرعنا في الكويت وأهلنا في عربستان إيران، وأصبحنا بين ليلة وضحاها دولة عظمى أو أمم متحدة تحتضن ملايين من الجياع والمرتزقة والعاطلين وخريجوا السجون والحفاة وتجار الأحزاب و المبادئ من هذه الدول وغيرها، حتى فقد الكثير من العراقيين هويتهم ليزايد عليهم هؤلاء كما يفعل الآن أولئك المحتلين ممن أتوا ليحرروا العراق من الأمريكان وكأنما أرحام العراقيات قد نضبت أو جفت؟!
وهكذا تراهم اليوم يستنسخون تلك المزايدات بينما تشن اسرائيل هجمة بربرية على شعب اعزل تم تخديره وايهامه كما حصل للعراقيين وكثير من اهالي لبنان في فواجعهم بحروب رؤسائهم وعنتريات احزاب وحركات متطرفة تعتمد التهييج والانفعالات الطائشة في سياستها وتسلطها ومنظومة من الاكاذيب والادعاءات على حساب حياة ومستقبل شعوبها، فلم يكتفو بتحويل فلسطين الجريحة الى دولتين ونظامين وتشويه النضال الفلسطيني وتحويل قضيته من قضية انسانية تتعاطف معها كل شعوب العالم الى قضية ايديولوجيه دينية متطرفة، بل اقحموا شعب غزة وشرطتها في اتون حرب غير متكافئة ستنتهي الى كارثة انسانية يدفع فاتورتها هذا الشعب الغلبان.
كفاح محمود كريم
التعليقات