القوانين هي العلاقات الضرورية التي تشتق من طبيعة الأشياء....quot; مونتسكيو quot; ( روح الشرائع)

يجيب quot; فوكوquot; على سؤال : ما أصل السلطة..؟ بإعادة طرح السؤال عن الكيفية التي تتجلى بها السلطة في البراكسيس السياسي( 1 )، متجاوزا بذلك فكرة الأصول الرتيبة لإنتاج السُلط الاجتماعية، فتنوع الشروط التأسيسية و تباين تمظهراتها، لا تؤكد سوى وحدانية جوهر السلطة التي هي ضرورة الانتظام في هيكلية اجتماعية متمحورة حول انتظام أعلى للتنظيم الحديث المابعد قبلي، لذلك تتماهى تقنياً آلية الانتاج الضروري للسلطة بآلية انبثاقها العفوي لضرورة وجودها، فتعقد الاجتماع البشري يستلزم عنه بالضرورة انتاج أو انبثاق عفوي لشكل تنظيمي طقسي في البداية و من ثمَّ هيكلي، يصطلح عليه بالسلطة، و هي سلطة موجودة أينما كان هناك تعقد لعلاقات ما بين قبلية تبحث عن تعاليها الخاص في الانضواء تحت علية تقاضي توازن القوى بداخلها، غير أنها لا تتحدد موضوعيا و لا يمكن فهمها إلا بدراسة كيفية تجليها في الممارسة السياسية التي تعيننا على متابعتها و قياسها و تجريدها من إدعاءاتها التي لا تكونها و من التي تكونها في حالة نفيها لأوجه تقلباتها السلوكية و التي في أحيان كثيرة تكون مقترنة بأمزجة أشخاص داخل السلطة أكثر من اقترانها بقوانين شرعتها هذه السلطة لكبح جموحها. إذن الكيفية الحسية للسطلة هي تاريخانيتها التي تعزل عنها تسويغاتها التي ليست من صلب فاعليتها الملموسة، و ذلك لأن السلطة هي ـ وفقا لفوكو ـ علاقة قوى، و القوى في أساسها هي علاقة، أي هي مرة أخرى سلطة تحددها كيفية ترابطها عبر علاقاتها مع القوى الأخرى التي يتأسس و يشترط الحيزالسياسي وجودها التزامني، و ذلك لأن التنافس المنتج للسلطة عبر علاقة القوى، لا يمكنه أن يحد من الجموح الداخلي في غياب فواعل راغبة في المقابل بجموح مواز لقوى أخرى. من هنا تتكون فكرة التعاقد بين الإرادات التي تقايض فيما بينها تنازلها التزامني عن التفرد في ملكية أو احتكار سلطة ما. و بدون حقل القوى ـ بالمعنى الفيزيائي للتفاعل ـ الآنف ذكره، سينسحب التحليل إلى مستوى ما دون دولاني، و حينها سنترك التحليل لبيار كلاستر المأخوذ بمجتمعات اللادولة.


لم يتداع إلاَّ المظهر العياني للقمع كسستام في العراق، بعد أن توارى جوهره في التعاملات داخل المؤسسات التي كانت حكرا على البعث ـ دون علاقة و بالتالي بلا شرعية ـ و الآن باتت حكرا على هيئة القمع كطرف في علاقة قوى داخل المؤسسة. فالبعث كوضعية كارثية للوجود، لا يمكن إزالته باجتثاثه المنصب فقط على أجساد فردية أو جماعية ملموسة موضوعيا، بل لا بدَّ من إعادة تلمس العقل في العلاقات بين هذه الأجساد المتماسكة في تعاضد تبايناتها، و من البرهنة على عقلانية هذا الترابط الذي يكون كل ذات فيها تكوينا تضافريا يعبر عنه بالنحن كتجلي هوياتي، حيث لا يكون الأنا أو الواحد سوى وهم لوجود و سيادية العنصر الفرد.


لنقس ما تقدم على الفعل السياسي للسطلة العراقية.واضعين في الاعتبار كل الثقل و التنابذات و الاختراقات... باختصار حساب حساسية الفوضى في الكتلة العراقية. و ليكن مثالنا الأول تشكيلة مجالس الإسناد الإشكالي، هذه المجالس التي استحدثها رئيس الوزراء كهيئة ما دون مؤسساتية مناقضة لتوجهه الدستوري نحو إنتاج هيئات مؤسساتية مدنية لإدارة الدولة الحديثة، فالضرورة الترابية التي يمكننا استخلاصها من افتراضات رئيس الوزراء حول هذه التشكلات، تفندها إلحاحه على عزل هذه المجالس في بنيتها الطبيعية الغير مثمرة على المستوى المؤسساتي، كونها تعمق من تمترس العشائري في مواجهة المؤسساتي و التي يتلمس الجميع خروقاتها في مؤسستي الجيش و الشرطة العراقية التي تعيد الكثير من أخطائها إلى تقاطع الإنتماء الطائفي و الفعل المؤسساتي المناقض لانتماء عناصر هذه المؤسسات. فهل مجالس الاسناد خطوة نحو الصواب..!؟. خصوصا أنها لم تظهر عبر قانون يشرعنها، بل و إنما عبر قرار إقصائي لعنصر أساس في العقد العراقي لدولته.


إن تجربة العراق المعاصر ليست سهلة المراس مدنيا، كونه محمل بعقود من الدمار و من الظروف النموذجية لسايكولوجيا مشدودة بسلاسة الدم المهراق على حافة سكين، مشدودة للعنف الذي لا يجد تسويغه إلا في تركيم مشهديته لعقود لم تألف سواه، و قد أتت مرحلة ما بعد مجلس الحكم بدون ضمانات جذرية تفكك فكرة العراقي عن الحق و القانون و تعيد تركيبها بناءا على أسس جديد، لأن الترميم لن يجدي نفعا في التركة البعثية، لذلك علينا أن نبحث عن الشخصية المحرتقة التي تصنع من أشياء قديمة شيئا جديدا على علاقة مع المُعاش العراقي الغير ممكن إسناده إلى وضعية طغيانية، فالعراق دستوريا حسم أمره بالتوجه نحو بناء الدولة الحديثة التي تكون المواطنة فيها أساس الهوية. غير أن تسرب الشخصية الطيغانية عبر الزي المدني للجعفري و محاضراته التسويغية، برهنت على تداعي الإمتثال العام للقانون العام العراقي، وعلى أن الدولة دستوريا قد تكون ديمقرطية لكنها على مستوى الملموس الحسي للفعل السياسي تتصرف وفقا لهوى الطاغية الشرقي. إذ أن إبعاد المؤسسات السيادية الأخرى كالبرلمان و مجلس الرئاسة، تفقدها ضرورتها بصورَّنتها عبر تركيز السلطة بيد الأمير التنفيذي، مما يعني انفصام عرى العلاقة المدنية بين الحكومة و الشعب والعودة إلى الحالة الطبيعية للقوى في الرداء المرتق للدولة العراقية.


ألا تغالي هذه المحاجاة في ادعائها بغياب المأسسة في الدولة العراقية الحديثة...؟ خصوصا أنك من المؤمنين بأن إنتاج التشكلات الاجتماعية لا تكون إلا عبر و من خلال قيم البطء للفاعلية الاجتماعية. فالهيكلية المؤسسية للدولة العراقية قائمة في المشروع الحديث لدولته، و القرارات المصيرية ـ كالاتفاقية الأمنية و الفدرالية ـ تتخذ و تمر عبر أقبيتها، فما معيارية التحليل في هذه القياسات..؟. إنها الفاعلية الدستورية التي تحافظ على تماسك المؤسسات في توازن توزع القوى فيما بينها كمؤسسات ـ علاقات قوى. فوجود المؤسسات لا يلغي بالضرورة نمو الزعامات، بل إن ذلك قد يدعمها بإضفاء شرعية صورية على تفرد الإدارة التنفيذية. فلو أجرينا على مستوى الهيكلية المؤسساتية،مقارنة بين الدولة العراقية و بين دولة دكتاتورية في صميم هويتها و سيرتها، لوجدنا تشابها لدرجة التطابق بين بنيتهما المؤسساتية التي لن يفضي تأويلهما البنيوي إلاَّ إلى المعنى ذاته لغياب حقيقتها عن تركيبتها، حيث يتأسس كلاهما من الوحدات المؤسسية ذاتها، كالبرلمان و مجلس الوزراء و الإنتخابات الرئاسية....إلخ. لكن هويتهما تكمن هناك، في الكيفية التي تتجلى بها هذه الهيكلية كسلطة ملموسة حسيا في الجسد الاجتماعي. وحده الدستور الملوس كفاعلية مؤسساتية، هو الضمانة التي بدونها لن تكون أية مؤسسة قائمة كهيئة شرعية، لذلك تكون القرارات الفردية نواقيس خطر تهدد دستورية الدولة بالمعنى الحقوقي، فالدولة العينية بالتعبير الهيغلي تفقد مضمونها المعتمد على: quot; وحدة الحرية الموضوعية و الحرية الذاتية quot; ( 2 ) لأن الأنساق الثلاث المؤسسة للدولة تتفكك في التفرد باتخاذ القرارات ـ كقرار انتاج مجالس الإسناد ـ، حيث لا تعود الحكومة مقترنة بالفرد كنسق أولي، و يختزل نشاط الأفراد إلى إرادة نشاط الفرد كنسق ثاني،و بالتالي لا تتحقق واقعية الأفراد في الدولة كنسق ثالث، بل تتطابق الدولة مع مصالح فئة معينة و تغدو العلاقة بين القوى الناسجة للسلطة، علاقة تنابذية لاختلال عمل محكمة النقض العليا التي توازن المسافة بين القوى، ليس على أساس إحصائي، و بل و إنما على أساس حقوقي، مما يجعلنا أمام نظام أحادي القوة، لا يكترث بالدخول في علاقة تفاعل مع القوى الأخرى التي بدونها لن يثمر تغطرس النظام سوى محاولات أبدية لإزالته، و تبدأ دارة العنف بالدوران.


لنعاين مرة أخرة مثال مجالس الإسناد. أصدر رئيس الوزراء العراقي قرارا بإنشاء مجالس الإسناد من القبائل العراقية ـ و هل بنية الصحوات من غير ذلك..؟ـ، فاعترضت على قراره بشدة الكتلة البرلمانية الكردستانية و أصدرت بيانا إدانيا ضد القرار و ضد هذا العنصر الإسنادي الذي لا يمكن للقوى الكردية أن تتصوره إلا كتمثل و كتحديث لتشكيلة الجحوش و استعارة من العقود القاتمة للبعث البائد. فهل لهذا القرار و مجالسه صيغة أخرى تسوغها فقط أو حتى فقط كموضوع غير أخلاقي، ذلك لأن وجود الصحوات و قبول الصحوات من قبل القوى العراقية المنضوية في العملية السياسية، ينفي عن هذه المجالس بالضرورة ضرورتها. إذن ما القول..؟. أجاب صاحب هذا القرار على اعتراض شركائه في السلطة و في مؤتمر صحفي بالقول الآتي : quot; يناقشوننا في دستورية هذه المجالس، فلماذا لا يتكلمون عن دستورية عقود النفط..؟quot;. لنفترض جدلا أن ما قاله السيد رئيس الوزراء عن لادستورية عقود النفط صحيحا. إذن. فلماذا يتخذ من هذه اللادستورية التي ينتقدها قاعدة لقراره، و قياسا لدفوعه...؟. شخصيا، لا أعلم لماذا يتوهم بعض القادة أنهم معصومون عن الخطأ، فتراهم يسنون القوانين و يستحثدون الهيئات المنتجة للوهم بأن تلك الأخطاء ضرورة أزلية و بأنها أخطاء سامية.


لطالما استوقفتني تلك القصة المعروفة عن لينين و تروتسكي ـ يذكرني بها رئيس الوزراء العراقي الآن ـ التي يذكرها quot; كاستورياديس quot; في صدد تحليله للترابط بين المؤسسة و الرمزي، حيث رفض لينين الامتثال لتسمية مجلس الوزراء البرجوازية، فاقترح عليه تروتسكي صيغة مفوضوا الشعب و مجلس مفوضي الشعب التي تبنيناها كتسمية جديدة لسلوكهم القديم الذي استمر مشتغلا عبر هيكلية مجلس الوزراء و الوزراء التي يمقتونها في تسميتهم البروليتارية. ( 3). أهناك من اقترح على رئيس الوزراء تسمية مجالس الإسناد، كي لا تحاكي تشكيلتهم تشكيلة الجحوش البعثية...؟


في عهد الكارثة الصدامية، كان الكرد يختزلون إلى الضمائر و الأسماء التي تحاكي حضورهم بغيابهم، لم تكن الألفاظ تراوغ الكرد، بل كانت تنفيهم في تلفظهم، كشمالنا الحبيب ـ ماشاء الله، كان حبيبا جدا لدرجة إبادته جماعيا ـ، و لفظ شمالنا الذي ما زال الكثير من الجهلة يرددونه، ينكر على الكرد ليس فقط وجودهم، بل و حتى غيابهم، إنهم لم يكونوا هنا على هذه الأرض، بل كان الشمال عراءا قائما هناك و مسكونا بالأصوات العروبية المنشدة للرسائل الخالدة. أما قاموس اليوم فنجده في حمأة مناقشات الميزانية و المتمثلة في عبارة quot; حصتهم quot; و quot; أعطيناهم كذا و كذا..إلخquot;، و غيرها من العبارات التي تتجمع لتشكل كشفا داخليا عن القيم الموقعية للقوى داخل علاقاتها، فعبارة أعطيناهم تعني صدقة حكومية للكرد، و قد يكون هؤلاء الكرد غير عراقين أكثر من كونهم مواطنين عراقيين، ذلك لأن الحكومات لا تتصدق على مواطنيها، بل تلتزم حيالهم بواجب هو حق لهم. أما العبارة الأكثر تداولا فهي quot; حصة الكرد quot; التي تدني الكرد على مضض من القسمة، و لكن ليس كشريك، بل و إنما كموصى له، و قد يكون الموصى له غريبا عن العائلة. و هكذا تغيب عن المداولات مفهوم الحصة الكردية التي تُخرج الكرد في العراق و إلى الأبد من المواجهة المستمرة مع الحكومة المركزية، فهذه العبارة تجسد تماما الوحدة التامة بين الكلي و الفردي، بين العام و الخاص، و تجعل القوى العراقية المختلفة للدولة تتوالد من كيان ترسندالي هو دستور الدولة. إذ يجب أن يكون الكرد و بقية القوى العراقية شركاء و ليسوا مشاركين في الدولة العراقية، و يجب أن تكون هذه الشراكة تزامنية و كلية في آن، بحيث لا تدنى القوى الكبرى من القرار و تستبعد القوى الصغرى، ولا يجوز أن تشارك قوى و ترجئ مشاركات أخرى لأجل معلق، فالعلاقة التعاقدية للمكونات العراقية لا بدَّ لها من ان تكون حرة و حقيقية، و إلاَّ لن تعني مشاركة أطراف عراقية في قرارات السلطة انها جزء من القرار، بل ستكون شماعته. المشاركة هي شراء أسهم لا ربحية و لا رجعية، تمنحك صوتا ليستثمره غيرك،مطابقا بذلك بين حضورك و بين غيابك. إنها بذلك تهديد للإسس الشرعية للدولة، لأن التعاقد التشاركي من طبيعة الدولة، و غياب الشراكة يفسخ بالضرورة غاية العقد، و بالتالي تتلاشى الدولة.


لنعد مرة أخرى إلى هيغل، و نتناول تعريفه للعقد: quot; العقد هو العملية التي ينكشف فيها التناقض و يصبح متوسطا... فبمقدار ما أوحد إرادتي مع إرادة الآخر و أكف عن أن أكون مالكاquot;. ( 4 ). قياسا على هذا التعريف فإن أزمة القوى العراقية، هي كونها لا تكف عن إعلان نفسها مالكا وحيدا للعراق في عمومه المتنوع، و لا توحد إراداتها في إرادة الدولة ـ العقل التوسطي المزيلة للتناقضات الداخلية،و ذلك بالرغم من أن التاريخ العراقي أثبت أن تملك البلاد من قبل التمركزات الطائفية يقوض الدولة و المجتمع العراقيين لسنين طويلة قاسية، و أن الأفكار الإقصائية لا تصمد أبدا إلاّ كمسوخ للفكر البشري.


أعلم بأن استخدام مفهوم الدولة حديث نسبيا / القرن 16/. و إنه في غياب إرث حقوقي تقل إمكانية حماية الحقوق من الانتهاك، لكن دراسة واقع الترابط العراقي و واقع تركيبه الاجتماعي يفسح المجال للباحث المتأني بأن يقترح القوانين الخاصة بهذه الترابطات على السلطة العراقية التي يجب ألا تنسى العهد البائد القريب، بل ان تتذكره بدقة كنموذج للشر، فماهية الأشياء لا تتحد في قياسها على أشباهها،بل و إنما بتحديد أنساقها الخاصة و العلاقات الخاصة بكل نسق فيما بينه و بينه و بين القوى الأخرى، لذلك تكون القوانين مشتقة من طبيعة الأشياء الظاهرة في كيفية ترابطها كعلاقات قوى.

سامي داوود


[email protected]
[email protected]

مصادر:

1-جيل دولوز. المعرفة و السلطة. مدخل لقراءة فوكو. ترجمة سالم يفوت. ط 1. 1987. المركز الثقافي ـ بيروت ـ الدار البيضاء. ص ( 79 ).
2-هيغل. أصول فلسفة الحق. ترجمة. إ. د إمام عبد الفتاح إمام. مكتبة مدبولي. القاهرة.
ص ( 498 ).
3- كورنوليوس كاستورياديس. تأسيس المجتمع تخيليا. ترجمة ماهر الشريف. دار المدى.
دمشق 2003 ص ( 174 ).
3-هيغل. أصول فلسفة الحق. مصدر ذكر سابقا. ص ( 231 )