الجزء الثاني

طرحنا في نهاية الجزء الأول من هذه الدراسة عن المجتمع المدني ما سنذكره تاليا من الأسئلة لكي نناقشها في هذا الجزء، أي الجزء الثاني من الدراسة عن المجتمع المدني:
1 ـ ما هي مكونات السلطة الجديدة في العراق و هل هي لصالح تأسيس مجتمع مدني؟
2 ـ هل توجد قوى حقيقية ترغب و تستطيع إقامة مجتمع مدني حقيقي؟
بدلا من التقسيم الشائع من الضروري لفهم الخارطة السياسية و الموقف من الحقوق المدنية تقسيم القوى السياسية المؤثرة في الساحة العراقية الى :
1 ـ قوى الإسلام السياسي شيعية كانت او سنية.
2 ـ القوى اليسارية و الديمقراطية و العلمانية.
3 ـ الأحزاب القومية الكردية.
أولا : قوى الإسلام السياسي:
اذا ما كانت القوى الناشئة في أوربا قد واجهت في سبيل تأسيس مجتمع مدني القوى السياسية الرجعية و المحافظة من جهة و الكنيسة من جهة أخرى أي إنها واجهت طرفين منفصلين عن بعضهما فإن القوى المفترضة التي ستواجه مهمة بناء المجتمع المدني في العراق ستجد أن هذه القوى السياسية و الدينية موحدة و متداخلة مع بعضها في العراق و قد صرنا الى تسميتها quot; قوى الإسلام السياسي quot; و التي تمثل دمجا بين السلطة الدينية و السياسية القائمة على الفكر الطائفي و التي تستهدي في مسيرتها بالمرجعيات و تخضع لها، و هذه القوى الممثلة حاليا بالائتلاف هي القوى الأكثر تأثيرا في رسم سياسة البلد منذ السقوط و حتى و الآن و لا تتوفر دلائل في الأفق و على المدى القصير على إمكانية تقليص دورها السياسي.


كما ثمة قوى الإسلام السني المشترك في العملية السياسية و الممثلة في الحزب الإسلامي الذي يشغل مواقع مهمة في العملية السياسية مثل مركز نائب رئيس الجمهورية.


قوى الاسلام السياسي قبل كل شيء الشيعي ثم السني تسمح لنفسها، الأولى ارتباطا بالمرجعيات باحتكار تفسيرها لمبادئ الدين وفق رؤيتها و تسمح لنفسها بموجب ذلك أن تتدخل في الشؤون الخاصة للمواطنين و خصوصا النساء و تحديد نوع الملابس و السلوك و تحديد قوائم طويلة من الممنوعات و تحكم على الناس من خلال الحلال و الحرام و المسموح و غير المسموح و هي لن تتخلى عن ذلك في كل الأحوال بموجب عقيدتها نفسها و بذلك فهي معادية بشكل مطلق للمجتمع المدني.


و اذا ما خضعت هذه القوى السياسية افتراضا إلى تعديل في موقفها من الحقوق المدنية و توقفت عن التدخل في الحياة اليومية للناس فإنها سوف تدخل في تبدل نوعي يخرجها من خانة الاسلام السياسي.


و رغم التفاوت في الموقف بين مكونات قوى الائتلاف من الحقوق المدنية بين متطرف و من هو اكثر تطرفا الا انها تشترك جميعها مع قوى الاسلام السياسي السنية في توسيع قائمة الممنوعات التي تجعل من وجودها ممكنا بما يشكل هوية لها.
و من الجلي أن حريات مدنية عامة تعني نهاية لوجود احزاب الاسلام السياسي لذلك تتمسك هذه القوى بقوة بتحديد الممنوعات و المسموحات في مقدمتها شكل الملابس للنساء، الحجاب و إلزاميته، الموقف من الشباب و ملابسهم و قصات الشعر، الطعام و الشراب : منع شرب الكحول، نوع الموسيقى و تحديد الذوق الجمعي، الموقف من الرياضية. تتوفر تصريحات متلفزة و منشورة لقادة دينيين يحددون موقفهم من كرة القدم و البطولات الدولية. و يتجلى الموقف الإسلامي من الرياضة و ألعاب أخرى في المذهب الذي ذهب إليه بعض الفقهاء من أن الألعاب تلهي عن ذكر الله الذي هو الواجب الرئيسي للكائنات البشرية استنادا الى تأويل الآية الكريمة quot; و ما خلقت الجن و الإنس الا ليعبدون quot; الذاريات 56. و هناك من يدخل الألعاب الرياضية و غيرها من الألعاب ضمن البدع و quot; كل بدعة ظلال و كل ظلال في النار quot;.


لا تزال بعض الحريات المدنية قائمة في بعض البلدان التي يحكمها الإسلام السياسي المعتدل كما في تركيا مثلا، و لكن الكثير من المسموحات في مثل هذه المجتمعات هي من بقايا الحقوق المدنية للمجتمع العلماني ( الذي ربما يكون في طريقه إلى الاندثار على غرار ما حصل عندنا. من يدري؟ )، و تدار بشكل غير معلن عملية هجوم تدريجي و مدروس على حقوق مدنية معينة، ففي تركيا يحاول حزب العدالة و التنمية التركي ممارسة معركة اختبار القوة ضد التقاليد الراسخة للحقوق المدنية و خصوصا في قضيتي الحجاب و الكحول. أما في ايران التي لا يمكن ان توصف في كل الاحوال انها تمثل الاسلام المعتدل فإن قائمة الممنوعات واسعة جدا.


و لا تشمل الممنوعات ما نص عليه القانون فقط، فقوى الاسلام السياسي في العراق و تركيا لم تحصل على السلطة و على كل مراكز القوة كاملة، بذا فهي لم تستطع فرض رؤيتها كاملة على شكل تشريعات. و لكن ما لم تستطع تشريعه مارست عملية منعة بواسطة قوة الميليشيات أو حشد أوساط محافظة ليس لها وضع قانوني لمواجهته. فلا يوجد قانون في العراق يلزم المرأة بالحجاب و لا يوجد ما يمنع من تناول المشروبات الكحولية و لكننا عمليا امام منع مطلق لكليهما، فالحجاب ملزم حتى للمرأة غير المسلمة، كما يعرّض شارب الكحول نفسَه للمخاطر.
و لا ننسى دور ممثلي قوى الإسلام السياسي حتى من اولئك الذين لا يملكون أي موقع رسمي أو حكومي في تنشئة الأطفال و التلويح بالثواب و العقاب الإلهي أمامهم.
فبرعاية سماحة السيد عمار الحكيم، كما ورد في الأخبار، جرى احتفال ديني بمناسبة بلوغ عدد من الفتيات سن التكليف الشرعي و ذلك بتاريخ 26. 6. من هذا العام و تحت شعار quot; الحجاب الفاطمي تكليف و تشريف quot;. و سن التكليف الشرعي هو الـ 9 سنوات.

السيد عمار الحكيم و في خلفية الصورة الفتيات الملكفات

و في زيارة قامت بها عائلة لرئيس الوزراء العراقي السابق السيد الجعفري سأل السيد الجعفري عن عمر صبية محجبة فوجد انها اقل من تسع سنوات فأشاد بها و قائلا انها لم تبلغ سن التكليف و مع ذلك فهي محجبة.
الموقف من المناهج الدراسية
و لقد شهدت المناهجُ الدراسية هجوما متصاعدا يتناقض مع العلمية و الحيادية التي عرفتها المؤسسات التعليمية العراقية التي كان يُشهد لها بالنوعية العالية للخريجين في جامعات العالم. و لعل ابناء جيلي يذكرون أن درس الدين لم يكن يدخل في الامتحانات العامة ( البكالوريا ) و كان من حق غير المسلمين ان يغادروا قاعة الصف. و قد بدأت التعديلات على الدروس و المناهج اثناء الحملة الإيمانية في زمن النظام السابق و جُعل من درس الدين درسا اساسيا. و لكن التغييرات اللاحقة في المناهج الدراسية في العهد الحالي قد شهدت تصعيدا مزدوجا لصالح الفكر الديني المحافظ و الطائفي مدعوما بآليات تدخل غير رسمية و غير مشروعة من قبل المؤسسات الدينية و رجال دين في مسيرة العملية التربوية.
ملامح مشتركة في الموقف من المجتمع المدني
عدا هذه الملامح الخاصة التي يمتاز بها الاسلام السياسي في الموقف الذي تمليه مفاهيمُه الإيمانية الاجتماعية فإن هناك ملامح مشتركة تجمع قوى الاسلام السياسي مع القوى الأخرى المؤثرة في الساحة السياسية في العراق و التي ذكرناها في صدر المقال و لعل الهم المشترك رغم اختلاف المنطلقات هو عدم السماح لحرية التعبير و للآمال غير الواقعية المنطلقة من عقالها بعد سنوات الكبت، عدم السماح لها بتقويض مراكز القوة و النفوذ و الاثراء لبلد جمع النقيضين : الثروة الهائلة، و الفقر المر. فالقوى و الاحزاب الاخرى كل حسب اساسه الاجتماعي و تكوينه الايديولوجي يقف موقفا معينا من الحريات العامة و حريات المجتمع المدني تتجلى في القضايا التالية :
1 ـ الموقف من المنظمات المهنية و النقابية و الاجتماعية و محاولة الهيمنة عليها و تسييسها و جعلها امتدادا للحزب او المنظمة.
2 ـ التعيينات و شغل الوظائف العامة و اعتماد معيار الولاء أو الانتماء لشغل الوظائف العامة مما يعني اقصاء الكفاءات و التكنوقراط و التخلي عن مبدأ الكفاءة بغض النظر عن الولاء السياسي او التبعية لحزب أو اتجاه فكري او طائفي.
3 ـ تسييس المجتمع في عملية تسابق محمومة على الكسب بين مختلف القوى السياسية و تقليص حجم و دور القوى غير المنتمية التي تلعب دور مراقب ضروري و حيادي لنوعية الاداء بغض النظر عن الانتماء بكافة اشكاله.
4 ـ الموقف من النقد كقانون من قوانين التطور، و إقصاء ذوي الميول النقدية.
و سوف نناقش هذه المحاور و تجلياتها في الجزء القادم من هذا الموضوع.


منير العبيدي
[email protected]