يعتقد جماعة من أهل العلم أن الله تعالى أخفى حقيقة الروح وجعلها مبهمة ولا يمكن لأحد الوصول إلى تفاصيلها وفهم مصاديقها ودليلهم في ذلك قوله تعالى : ( ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً ) الإسراء 85.
وهذا الدليل لا يمكن نعته بالضعف فقط بل هو باطل وحجته غير ناهضة، نعم إذا كانت هناك جلسة في منتدىً للشباب وكان النقاش بينهم يدور حول الروح وسئل أعلمهم فأجاب بأن [ الروح من أمر ربي ] عندها يقطع الحديث، فهؤلاء الشباب ممكن أن يعذروا أما إذا كان الحديث على مستوى العلماء بعناوينهم الطويلة والعريضة وفي منتدياتهم الدينية التي تصدر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثم يوجه نفس السؤال لأعلمهم وتكون إجابته نفس الإجابة بتعبير آخر إن [ الروح من أمر ربي ]. فلا تجادلونني في ذلك وهنا ترصد جميع الأبواب بوجه السائل، إذا كان الأمر هكذا فلا سبيل لنا إلا القول إن هذا قمة التجني على كتاب الله تعالى فحقيقة الروح وأمر الله تعالى من أوضح الواضحات في القرآن الكريم كما سيمر عليك خلال البحث المخصص لهذا المقال.
وقبل الخوض في الحديث عن الروح بودي أن أشير إلى أن في القرآن الكريم مبهمات كثيرة لا يمكن الوصول إلى معرفتها بخلاف الروح الواضحة لأن المسيرة البشرية مليئة بالحجب والإنسان يسير في غفلة غير متناهية ولا يمكن أن يكتشف تلك الغفلة إلا بالرجوع إلى الله تعالى فهذه الغفلة لا يمكن أن ينفك الإنسان عنها لطالما ران على قلبه وتجاذبته الذنوب من كل جانب. فإذا لجأ الإنسان إلى الله تعالى وتخلص من الموبقات فإنه في هذه الحالة لا يستدل على وجود الخالق بالمخلوقات أو على قاعدة الأثر يدل على المسير بل يستدل بالخالق على وجود المخلوقات نفسها كما قال الإمام علي ( عليه السلام ) لو كشف لي الغطاء ما إزددت يقيناً.
إذاً الحجب التي ليس بإمكاننا كشفها كثيرة ومتعددة والسبب في ذلك يتعلق في الغفلة التي تلازم الإنسان كما أسلفت ولا يمكن أن تنتهي هذه الغفلة إلا بالموت الذي يكشف الحجب التي تستر الإنسان بسبب بعده عن المهمة التي خلق من أجلها لذلك يشير تعالى إلى هذا الموقف بقوله : ( لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطائك فبصرك اليوم حديد ) ق22. وهذه الغفلة التي قرع الإنسان على أثرها قد أشار تعالى لها بقوله : ( يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ) الروم 7.
وهذا أشد خفاءً من الروح ناهيك عن المغيبات التي إستأثر الله بعلمها كما أشار إلى بعض منها في قوله : ( إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت ) لقمان 34.
وهذه المغيبات التي ذكرت في سورة لقمان لا يعني أن الإستئثار يتوقف عندها فقط كما يعتقد البعض لأنك خبير بأن إثبات الشيء لا ينفي ما عداه وإنما هذه المغيبات كانت رداً على سؤال وجه للنبي ( ص ) ومن أراد الإطلاع عليه فليراجع أسباب النزول لأن الفترة التي نزل القرآن فيها لا يمكن للباحث أن يغفلها وإلا فإن فهمه للقرآن يترتب عليه ألف دليل ودليل فلا بد إذاً من دراسة تلك الفترة بعمق لمن أراد الخوض في تفسير القرآن الكريم.
ولطالما تطرقنا إلى هذه المغيبات لا أريد أن أناقشها لأن هذا يجعلنا نحيد عن موضوع البحث ولكن أريد أن أشير فقط إلى الأمر الذي يشكل على البعض والذي يثير لديهم التساؤل المتمثل بالعلوم الحديثة التي إستطاع الإنسان من خلالها أن يتوصل إلى معرفة نوع الجنين وبالتالي فإن آية من آيات القرآن الكريم قد ألغي مفعولها ولا يمكن العمل بها حسب إعتقادهم، وفي هذه المناسبة لا يسعنا إلا أن نقول لهؤلاء إن الذي توصل لمعرفة نوع الجنين هو العلم الذي سخره الله تعالى لخدمة الإنسان وعندما يشاء الله رفعه فلا راد لحكمه كما يؤكد ذلك في قوله : ( حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس ) يونس 24.
وقوله تعالى : ( ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام *** إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ) الشورى 32-33. إذاً ما حصل عليه الإنسان كان بتخويل منه تعالى فمرة يكون التخويل بالعلم التدريجي والإكتشافات البشرية ومرة يكون ذلك التخويل بنقل القدرة إلى الإنسان ليفعل ما يشاء ولكن ذلك الفعل يتوقف على الإذن منه تعالى كما حصل مع عيسى وأشار له تعالى بقوله : ( وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرأً بإذني وتبريء الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني........ الآية ) المائدة 110. وأيضاً حصل لإبراهيم ما يشابه ذلك. إذاً كل هذا الذي تقدم أِشد خفاءً من الروح التي نالت نصيباً من البيان أكثر من أي شيء آخر وقد سلط القرآن الضوء عليها وبمختلف الطرق والإتجاهات ولكن جهل بعض أهل العلم للغة القرآن الكريم يجعلهم يظنون أن قوله تعالى : [ قل الروح من أمر ربي ] هو الجواب الشافي دون تحليل وتمحيص لما يجب أن يستخلص من المعنى المتمم لمسألة الروح فقوله تعالى : ( ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً ) الإسراء 85. لو تأملناه بدقة وعرضناه على متفرقات القرآن الكريم لكانت النتيجة أن الأمر في منتهى الوضوح وعند إستعراضنا لمراحل الروح نجد أن لها مصاديقاً كثيرة فمنها ما يرافق الملائكة كما في قوله تعالى : ( تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر ) القدر 4. وكذلك قوله : ( ينزل الملائكة بالروح من أمره ) النحل 2.
وأيضاً قوله : ( يوم يقوم الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً ) النبأ 38. ولذلك وصف به جبريل توسعاً في قوله : ( نزل به الروح الأمين ) الشعراء 193. وهناك الروح الذي نزل لمريم ( عليها السلام ) كما في قوله : ( فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً ) مريم 17. وقوله : ( فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين ) الأنبياء 91. وقوله : ( ومريم إبنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا ) التحريم 12. وهنالك الروح الذي أيد به عيسى ( عليه السلام ) كما في قوله : ( وأيدناه بروح القدس ) البقرة 87. وقريب منه البقرة 253. والمائدة 110.
وهناك الروح الذي يرافق المؤمنين كما في قوله : ( لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أؤلئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ) المجادلة 22. وأيضاً الروح الذي أوحي به إلى النبي ( ص ) في قوله : ( وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ) الشورى 52. ولو تأملت المراحل التي ذكرت الروح تجد الغالب فيها أن الروح من سنخ الأمر الذي مر عليك بيانه وعند إستمرارنا في البحث نحصل على معنىً آخر للأمر يظهر من خلال الآيات التي أشارت إلى تعريفه كما في قوله تعالى : ( إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ) يس 82.
وهذا الأمر الذي تجسد بكلمة [ كن ] التي تعطي المتأمل دلالة واضحة بأنها الكلمة التي أفاضها الله تعالى على الوجود ليتم من خلالها حصول الإرادة الإلهية دفعة واحدة دون توسط الأسباب الطبيعية ويؤكد هذا قوله : ( وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر ) القمر 50. وهذا الأمر بطبيعته لا يحتاج إلى العد أو لمح البصر وإنما يخاطبنا تعالى باللغة التي أنشأنا كلامنا فيها، وهذا يدل على نفي التدريج والحصول على مايشاء تعالى بكلمة كن على ما في تعبيرنا. أما الخلق الذي تتوسط به الأسباب الطبيعية لا بد أن يكون حصوله في زمان ومكان معينين ومن هنا لابد من التفريق بين الخلق الذي توسطت به الأسباب الطبيعية والأمر الذي هو خلق أيضاً لكن دون توسط تلك الأسباب وقد جمعهما الله تعالى بقوله : ( إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين ) الأعراف 54. ومن هنا يظهر أن الأمر لا يحتاج إلى الوسائط فهو بمنزلة المشرف على كلمة كن كما قال تعالى : ( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ) آل عمران 59.
فالمرحلة التالية لخلقه من تراب هي كلمة كن أي دخول الروح المجردة عن التدريج وقد أشرف عليها الأمر وقد مر عليك [ إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ] وهذا الإشراف هو الذي أوجد لنا الخلق السريع أي بالدفعة التي إنتصب بفعلها الكائن الحي وقد أخذ بالدخول الفعلي إلى الحياة فظهر بكل ما تقدم أن الروح هي من الأمر الذي أشرف على إيجاد الخلق كما قال تعالى : ( فإذا سويته ونفخت فيه من روحي ) الحجر 29- ص 72. وهذا يدل على أنه لما سئل النبي ( ص) عن الروح كان الجواب الذي نزلت به الآية [ قل الروح من أمر ربي ] أي أنه الإيجاد بالدفعة لا بتدخل الوسائط كما مر عليك في المراحل التي أشرنا لها والتي بينت أن الروح في منتهى الوضوح.
عبدالله بدر إسكندر المالكي
[email protected]
التعليقات