بموازاة الافكار التي طرحها الدكتور الفاضل سيار الجميل فيما يخص المشروع المدني و المجتمع المدني و الحقوق المدنية أطرح مساهمتي.

الحلقة الاولى
المجتمع المدني و الحقوق المدنية، تحديد المقصود


لعل مشكلة المجتمع المدني المستعصي تأسيسُهُ أو إنعاشُه في العراق و دول أخرى يكمن إلى حد ما في تعريفه تعريفا صحيحا و بالتالي تحديد من هي القوى الداعمة له و المهتمة بتطوره. على أن من المسلم به أن مجتمعا مدنيا مؤسسا تأسيسا صحيحا لا بد أن يقوم على الحد من طغيان السلطة بكافة اشكالها و خصوصا السلطة السياسية و السلطة الدينية و إيجاد نوع من التوازن و التناغم بين الرؤية السياسية و مستلزماتها من جهة و آليات عمل المجتمع المدني من جهة أخرى. لذا فإن السياسي غير مؤهل للمبادرة إلى الدعوة الى تأسيس المجتمع المدني و حقوق الفرد المدنية و الدفاع عن هذه الحقوق لأنها وضعت أصلا للحد من سلطته، و هو بذلك يكون مرغما على القبول بها.
إن الحقوق المدنية هي ببساطة الحقوق الطبيعية التي تكونت من خلال اعتراف اجتماعي متبادل بين افراد المجتمع بأن الحرية الفردية يجب أن لا تمس و أن لا تسييس و لا يمكن الحد منها إلا لصالح المصالح الجمعية للمجتمع quot; تنتهي حريتك حيثما تبدأ حريتي quot;.
فما هي إذن الرافعات الاجتماعية للمجتمع المدني؟
لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال إلاّ بالعودة بضعة خطوات إلى الوراء.
لقد تأسس المجتمع المدني المعاصر نظريا و بشكله الحقوقي استنادا للقيم الجديدة التي بشر بها المجتمع الصناعي الغربي من خلال محطات تاريخية مهمة منها ما تطور سلميا و بطريقة سلسلة كما في إنكلترا و منها ما تطور عن طريق العنف مثل الثورة الفرنسية التي قامت في عام 1789.. الخ.
و بالرغم من السجل الدموي لها فإن الفكرة التي جاءت بها الثورة الفرنسية في الحرية و العدالة و المساواة و التشريعات التي تأسست عليها لاحقا قد ألهمت أوربا للنضال في سبيل المزيد من الحقوق المدنية و حماية المدنيين من عسف السياسيين و الكنيسة و عملية تسييس الاجهزة المدنية و من اجل تأسيس حقوق لا تمس للمواطن العادي في الامور الشخصية و المعتقد و الدين.. الخ. بعدها استمرت الحقوق المدنية في خطها التطوري الصاعد رغم الإنتكاسات المؤقتة و المكلفة مثل هيمنة روبسبير و من بعده نابليون على السلطة في فرنسا و وصول النازية و الفاشية الى السلطة في ألمانيا و ايطاليا. و لم تكن هذه سوى منعرجات الطريق الصاعد رغم إنها كانت مكلفة و مأساوية إلا أن الطريق أستمر تصاعدا و تعززت حقوق المواطن المدنية.
بعد الثورة الفرنسية بما يقارب من المائة عام لم يجد ماركس في المبادئ التي بشرت بها الثورة الفرنسية ما يكفيه و دعا إلى تجاوزها. فمن اجل المزيد من الحرية التي حلم بها quot; الانتقال إلى ملكوت الحرية quot; كما رأى ـ وجد أن هذه الحرية quot; البرجوازية quot; هي حرية نظرية تؤدي الى ابشع استغلال اقتصادي و انها تحتاج الى شكل من أشكال المساواة الاقتصادية شرحها ضمن نظرية متكاملة تدعو تغيير نوعي من خلال الثورة و إقامة مجتمع لا طبقي. لكن الأنظمة التي تأسست بعده و على هدى أفكاره لم تقدّم لنا، على خلاف أحلام الداعين الى المساواة، غير مجتمعات شمولية لم تراعِ الكثير من الحقوق المدنية كحرية السفر و التنقل وحرية الرأي و العقيدة..الخ.
لم يكن المجتمع الغربي و لم تكن الحقوق المدنية فيه دائما مثالية، فقد أغرقت الكثير من أعمال النضال و الاحتجاج بالدم. و لكن ينبغي الاعتراف بأن المجتمع الغربي كان ينطوي على آليات تصحيح و تجاوز الوضع ا لقائم أدت إلى التطوير المستمر للحقوق التي تطالب بها شرائح واسعة من المجتمع من خلال حرية الصحافة و حرية التعبير و حرية التظاهر و الإضراب و التعددية السياسية..الخ التي بواسطتها استطاعت الجماهير الواسعة من المجتمع الغربي أن تحقق خطوات واسعة إلى الأمام و مكنها من الحصول على المزيد من الحقوق باطراد حتى وصلت الى الحالة المتقدمة التي عليها اليوم.
و كانت هناك محطات مهمة لتطور النضال في سبيل الحقوق المدنية في أوربا في القرن العشرين منها النضال في سبيل الحقوق المدنية للسود في الولايات المتحدة و عمليات الاحتجاج على حرب فيتنام. أما في أوربا فقد كانت انتفاضة الطلبة في الستينات علامة كبيرة في طريق المزيد من الحقوق المدنية الراسخة التي مثلت نقطة تحول كبيرة في المجتمع الأوربي الذي لم يعد ألعوبة بيد الاحتكارات تصنعه و تعيد صناعته كما تشاء و متى ما تشاء كما ثقف بعض أساطين الثقافة اليسارية المحافظة.
نواة المجتمع المدني الغربي
نواة المجتمع المدني الغربي هي المواطن الحر دافع الضريبة الذي تبلور وضعه القانوني و علاقاته الاقتصادية بشكل حاسم في القرن العشرين و استمر في التطور حتى قرننا الحالي. و قد شكل المواطن الحر دافع الضريبة، سواء كان من المالكين لوسائل الإنتاج أو من غير المالكين لها، الأساسَ الاجتماعي للمجتمع المدني الذي حدّ من طغيان السياسي و رجل الدين بالعمل على تشريعات تكفل حقوقا ثابتة لا يمكن تجاوزها. و قد ارتبط هذا النجاح و إمكانية تحقيقه بكل أشكال الحريات التي ذكرناها و لعل أهمها التداولية السياسية التي جُعلت آلية حاسمة يلوح بها المجتمع لكل قائد يخرج عن الطريق أو يسئ استخدام السلطة أو يفشل في الإدارة او يعجز عن اتخاذ القرارات الصائبة quot; هناك من سيخلفك لن يُعاد انتخابك أو انتخاب حزبك اذا لم تسر في الطريق الصحيح quot;!
و بذا تم التأسيس للحقوق الثابتة للمواطن لا يجوز المساس بها تحت أية واجهة و لا تتغير بتغير الحاكم أو الحزب الحاكم، و لا يؤثر عليها كون المواطن معارضا او مؤيدا للحكومة.
العراق، صعود و أفول المجتمع المدني
وُضعت اللبنات التشريعية الأولى لتأسيس المجتمع المدني في العراق لأول مرة بعد الحرب العالمية الأولى و سقوط الدولة العثمانية و تأسيس الدولة العراقية من خلال دستور و قوانين اُقتبست جوهريا ـ مع بعض التعديلات ـ من الدساتير و القوانين الغربية، الإنكليزية و الفرنسية منها على وجه الخصوص دون أن تكون هناك قاعدة اجتماعية و اقتصادية لها.
كان من شأن التطور اللاحق لمؤسسات الدولة العراقية أن يوفر مستلزمات من فوق ـ على عكس ما حدث في أوربا من تحت ـ لمجتمع مدني يمتلك أساسا سليما للتطور يقوم على قاعدة اقتصادية أخذت بالتطور تمثل توازنا بين المشروع الخاص و المؤسسات التي تدار من قبل الدولة و مجانية الكثير من الخدمات مثل التعليم و العناية الصحية.
انتهى هذا التطور بقيام ثورة 14 تموز التي ستمر ذكرى قيامها بعد أيام و التي قام بها ضباط ناقمون و على غرار ثورة يوليو في مصر لم يكونوا يفكرون بأي شيء يتعلق بالديمقراطية و التعددية. كان بعض هؤلاء الضباط يحمل برنامجا اجتماعيا متنورا و لكنه قام في الوقت نفسه بشلِّ كل مستلزمات تأسيس مجتمع مدني من خلال معاداته للتعددية و الحياة الحزبية السليمة و المؤسسات التمثلية.
و منذ ثورة 14 تموز تم التأسيس للإنحدار المتفاقم للمجتمع المدني دون أن يكون ذلك ضمن اهداف قادتها. فـ 14 تموز قد شرّعت العنف كوسيلة للتغيير و أعطت الحق للآخرين بأن يقوموا بالوصول إلى السلطة بواسطة القوة و لسان حال الانقلابيين الجدد يقول : quot; اذا كنتَ أنتَ قد وصلت الى السلطة عن طريق القوة و أجزت لنفسك قتل رجال و نساء عزل من السلاح بدون محاكمة فلماذا لا يحق لي القيام بالشيء نفسه quot;؟
و بذا فإن 14 تموز كانت الأب و الأم الشرعيين لكل الانقلابات و التغييرات اللاحقة لأنها شرّعت ما جاء بعدها من انقلابات فاقتها دموية، ذلك انها لم تقم بالانتقال من الشرعية الثورية الى الشرعية الدستورية فأبقت الباب مفتوحا أمام المغامرين، و لم يكن ذلك، على اية حال، غريبا عن الذهنية العسكرية التي قادت البلد حينذاك.
منذ ذلك الحين لم يشهد المجتمع المدني و الحقوق المدنية غير التدهور المطرد، حتى تم الإجهاز عليه تماما من قبل سلطات النظام السابق حيث أصبح الولاء للنظام و الحزب و للفرد القائد هو الضمانة للحصول على الحقوق، و لم يسمح للمعارضين حتى أن يدفنوا في الأراضي العراقية بعد و فاتهم في الخارج. و وضعت علامة المساواة بين الولاء للوطن و الولاء للقائد، فالذي لا يوالي القائد هو خائنٌ.
و بعد العديد من الحروب و الحصار و حملات القمع لم يبق أي شيء من الحقوق المدنية في العراق.
في الجزء الثاني:

مكونات السلطة الجديدة في العراق هل هي لصالح تأسيس مجتمع مدني؟
هل توجد قوى حقيقية ترغب و تستطيع اقامة مجتمع مدني حقيقي؟


منير العبيدي