لن أتحدث عن حلبجة في سقوطها الكيماوي الأول(مارس/ آذار 1988)، يوم اقتيدت إلى موتها الكبير وسقطت من ذاكرة الحياة زهاء خمسة آلاف مرة، والتي قتلها quot;ركاب التراجيدياتquot;، كلاماً وتحليلاً وتفسيراً، ولن أبحث في quot;كيمياء الموتquot; المدوّن حلبجياً، كما قد يشي عنوان هذا المقال. وأنما سأذهب في الحديث عن بعض حلبجة، التي لا تزال تمشي إلى موتها واقفةً، في وضح النهار الكردي، وعلى مرأى ومسمع كردستان الفوق الحرير، ومشاريعها الكمالية، الترفيهية، الطائرة، في الفضاءات المليونية الرحبة.
في آخر بيانٍ لها طالبت منظمة جاك(هي منظمة كردية، مدنية، مستقلة، مناهضة للجينوسايد، وتعني بشئون المؤنفلين وضحايا حروب صدام الكيماوية ضد أكراده) رئاسات الحكم في كردستان العراق بquot;الإستقالةquot;، وذلك نتيجة quot;عدم قيام مسؤوليها بواجباتهم وتقصيرهم إزاء تنفيذ ما وعدوا بهquot;، وquot;إهمالهم لحياة المواطنين التي تعتبر حقا مشروعاً ومقدساً وفق القوانين الدوليةquot;، فضلاً عن quot;الإهمال الذي يتعرض له ضحايا مدينة حلبجة المذبوحة بكيمياء الفاشيةquot;، حسبما أفاد البيان.
ويضيف البيان، أن quot;الذين استشهدوا من ضحايا وبقايا تلك المجزرة التي شهدتها مدينة حلبجة بسبب الإهمال في علاجهم قد بلغ 50 مواطنا منذ عام 2000 وان هذه الأرقام في زيادة وخاصة إن الفريق الطبي الذي زار مدينة حلبجة عام 2006 أكد على إن من بين 210 مواطنا من الضحايا الناجين من تلك الجريمة ان 69 مصابا منهم بحاجة إلى علاج سريع خارج إقليم كوردستان وبقية المصابين بحاجة إلى رعاية خاصة في الإقليم، وفي العام الماضي زار فريق طبي آخر المدينة وأكد على إن من بين 300 مصابا فان 90 منهم بحاجة إلى علاج في أوربا بغرض إنقاذ حياتهم من الموت والبقية بحاجة إلى رعاية واهتمام خاص في الإقليمquot;.
تأسيساً على quot;الإهمال الكبير والمتعمدquot; لجراح حلبجة الباقية، ذهب البيان مع الكثيرين من عامة الكردستانيين المحرومين من نعيم quot;كردستانهم النهائيةquot;، المتقاسمة بين الحزبين الكبيرين الحاكمين، إلى أن هذا الإهمال هو quot;جزء من الإهمال العامquot;، الكبير والكثير، منذ انتفاضة آذار 1991 التي quot;انحرفت عن مسارهاquot;، وذلك quot;بعد أن تمكن المئات من رؤساء الجحوش الذين ساهموا وبشكل فعال في حملات الأنفال إضافة لبقايا الأجهزة الأمنية للنظام المقبور من الوصول إلى مصادر القرار السياسية والحكومية في إقليم كوردستان العراقquot;.
لذا quot;لم يستغربquot; القائمون على شئون هذا البيان من quot;محاولات بعض أطراف العملية السياسية الكوردية بالتهرب من تنفيذ الحكم العادل بحق دكتاتور العراق إضافة إلى رفض تلك الأطراف لتنفيذ حكم الشعب بحق المجرم علي كيمياوي بعد أن أصدرت المحكمة الجنائية قرارها بحقه في 4-10-2007quot;.
بغض الطرف عن quot;واقعيةquot; أو quot;لاواقعيةquot; البيان في مطالبته بquot;استقالة رئاسات الحكم في كردستانquot;، إلا إنه يدل في بعضه الكثير على الركوب الواضح والمفضوح للمسؤولين الكرد على التراجيديات الكردية، التي طالما quot;جيّرتquot; كquot;قميص عثمان كرديquot; في صولاتهم وجولاتهم السياسية والإنتخابية، كي يعبروا بها إلى غاياتهم quot;الكردياتquot;، المبررة بوسائل كردية مفصلة سلفاً.
quot;غضبةquot; حلبجة بمناسبة ذكراها ال18(آذار 2006) التي تفجرت في وجه السلطات الكردية، كشفت القناع عن الإهمال والتسيب الكبيرين من جانب القائمين على شئون كردستان، لحقوق هذه المدينة المنكوبة أصلاً، وأهليها الذين احتجوا وصبوا جام غضبهم وفورانهم على quot;نصبهمquot; التذكاري، الشاهد الوحيد القادم من زمان الكيمياء الباقي من مأساتهم، اعتقاداً منهم بأنه quot;النصب السياسي، المناسباتيquot;،الجاثم على الباقي من دمهم، والقائم ليل نهار، على جراحاتهم المستغرقة منذ حلبجة الزمان إلى حلبجة المكان.
وفي الوقت الذي quot;أنحى مسؤولون محليون باللائمة على إسلاميين وغرباءquot;، كانوا وراء quot;شغب حلبجةquot;، الذي إنتهى إلى إضرام النار في النصب التذكاري لشهدائها، وسقوط قتلى وجرحى، نفى شهود عيان من قلب الغضب ذاته والمدينة ذاتها، هذا quot;الإدعاء الرسمي الجاهزquot;، بقولهم: quot;إن الغضب المحلي من الحكومة هو الذي دفع إلى تلك الإحتجاجاتquot;(رويترزamp; الشرق الأوسط، 02. تشرين الأول/ سبتمبر 2006).
وبحسب التقرير نفسه، يقول مكوان رؤوف كالكثيرين من أبناء مدينته: quot;الحكومة لم تفعل شيئاً لحلبجة، والشيء الوحيد الذي قامت ببنائه هو النصب التذكاري. الساسة لا يأتون إلى حلبجة إلا من أجل الذكرى السنوية فقط. لقد شيدوا النصب التذكاري عند أطراف المدينة لتفادي رؤية وجوهنا وسؤالنا عن مشاكلناquot;.
المتتبع لأخبار quot;الطفرة العمرانيةquot; في كردستان quot;الكماليةquot; المرفّهة، سيلحظ كيف أن المدن القريبة من قلوب الفوق الكردي ولياليه الحمراء، قد آلت في بعضها الخصوصي جداً، إلى مدن quot;فوق الريحquot; من طراز خاص جداً، حيث تجد في كلّ واحدة من تلك quot;المدن المدللةquot; مدينةً جديدةً، مبنيةً وفق أحدث المواصفات، تسبح في بحبوحةٍ أكيدة، خاصة ومحصورة فقط بالمسؤولين ومتعهديهم الوهميين، الهوائيين، وملايينهم المسروقة من الجيب الكردي العام.
في ذات الوقت الذي لا تزال حلبجة وأخواتها الأخريات المؤنفلات يذهبن إلى موتهن الباقي، نجد حضرة الحكومة الكردية تخصص في الجهة الأخرى من جوعهن وحرمانهن وبؤسهن، ما يعادل 15ـ18 مليار دولار فقط، لمشروع بناء قرية كمالية(تارين هيلز)، على مساحة 170 مليون قدم مربع، وفقاً للطراز الغربي المتطور جداً. وبحسب ما أفادته جهات إعلامية مختلفة، فإنّ المشروع quot;سيضم ملعبا للغولف يحوي 18 حفرة، وتحيط به الفلاقت الجميلة، ومركزا صحيا، ومنتزها مائيا، ومنزها عاديا للفنون والأشغال الحرفية، وفنادق لرجال الأعمال ومدارس لسكان تارين هيلز، ويضم أيضا فللا مصممة وفق طراز البحر المتوسط ومراكز تسوقquot;(الأسواق نت، 03 حزيران/ يونيو 2008).
كردستان quot;الوديعةquot; المخبأة في زوادات أيام زمان، والمتصادقة مع جبال أيام زمان، لم تعد واحدةً موحدةً، أو وطناً واحداً ونهائياً لكل مكوناتها، بأكرادها ولاأكرادها، كما قد يُتصور. كردستان آلت بحكم quot;المال المسروقquot;، وquot;البعض المسؤول الحامي الحراميquot;، إلى كردستانين مختلفتين ومتباعدتين: واحدة في quot;التحتquot;، تُسرَق، متقشفة، فقيرة، معوزة، فاقدة للحياة ووسائلها، وأخرى في quot;الفوقquot;، quot;تسرقquot;، تسبح في الملايين، مبذّرة، مسرفة، بطرانة، داخلة في الحياة وأريحيتها، من أحدث وأرفه وأوسع أبوابها.
هنا، تذهب حلبجة وشقيقاتها في quot;تحت كردستانquot;، واقفةً، إلى موتها المستمر، وجوعها وحرمانها، المستمرين، المسغرقين على طول كردستان وعرضها.
وهناك، في quot;كردستان الفوقquot;، تذهب أخواتها الأخريات، الكرديات، الحديثات، المدللات، المدعومات، طائرةً، إلى بحبوحة quot;تارين هيلزquot; الكاملة المكمّلة، وفنادقها ومنتزهاتها وملاعبها الكمالية.
هنا، تستيقظ حلبجة كل صباح على quot;موتٍ جديدquot;، وكابوس كيمياء جديد، وجوعٍ جديد، وزيارات رسمية جديدة، لا تغني ولا تسمن، وغضبٍ جديد، فيما أخواتها المليونيريات، هناك، يستيقظن بعد كل quot;ليلةٍ حمراء أو بنفسجيةquot;، مع كل صباحٍ جديد، على تحويش ملايين جديدة، وquot;تارين هليز جديدةquot;، وquot;ملاعب غولف جديدةquot;، وحياة أكثر من جديدة، أو جداً جديدةquot;.
هنا، ماتت حلبجة، ولا تزال تموت في كردستانها، واقفةً، أكثر من مرةٍ، فيما quot;تارين هيلزquot; هناك، الممتدة من quot;كردستان هوليرquot; إلى كردستان السليمانيةquot;، تعيش في ملهاة، في أكثر من البحبوحة، وبين أكثر من حياة.
هنا، تسقط كردستان في حلبجة
وهناك، تحيا وتعيش كردستان في quot;تارين هيلزquot;.
التعليقات