جميعنا نعلم بأنه في صبيحة يوم 14 تموز عام 1958 أغتيلت العائلة المالكة العراقية المسالمة التي تعود بنسبها الى الرسول محمد (ص) بيد زمرة من الضباط الإنقلابيين من دون ذنب إقترفته سوى أنها حكمت العراق لأربعة عقود بكل حب وتفان وإخلاص ونزاهة وكانت أول من وضع دعائم وشكّل ملامح دولته الحديثة فكان جزائها النكران والطعن في الظهر والقتل بطريقة وحشية بشعة ظلت مشاهدها الدموية عالقة في ذاكرة منفذيها أنفسهم لعشرات السنين حتى وصل الحال ببعضهم الى الإنتحار للتخلص منها ومن كوابيسها التي كانت تلاحقهم ليل نهار خصوصاً وأنهم بفعلتهم هذه قد بدئوا مسلسلاً دموياً لايزال مستمراً حتى هذه اللحظة كانوا هم أنفسهم في وقت من الأوقات من ضحاياه.
فماهو الذنب الذي إقترفه الملك الشاب فيصل الثاني الذي كان مثالاً للخُلُق والوداعة والإخلاص والوطنية ؟ وماذنب جدته الملكة نفيسة التي رفعت المصحف الكريم على رأس حفيدها لحمايته من أصحاب القلوب المتحجرة والضمائر الميتة التي لم تراعي حرمة لمصحف أو لجَمع أعزل ؟ وماذنب خالته الأميرة عابدية التي أفنت عمرها في تربية إبن أختها وكانت تطوقه بذراعها حتى إستشهادهما ؟ وماذنب خاله الأمير عبد الإله الذي وقف بكل إخلاص الى جانب إبن أخته الملكة عالية حتى إشتد عوده وأصبح مَلِكاً تفتخر به الأمم ؟ وماذنب المرافقون ؟ وماذنب العاملين في القصر؟ ماذنب كل هؤلاء ليقتلوا بتلك الطريقة البشعة الوحشية الهمجية خصوصاً إذا علمنا بأنهم لم يقاوموا مهاجميهم ولم يطلقوا رصاصة واحدة أو يرفعوا إصبعاً أو صوتاً بوجههم بل تعاملوا معهم بكل أدب وبأخلاق عالية.. إذ تشير جميع المصادر التي تناولت هذا الحدث الى أن العائلة المالكة كانت قد إتخذت قراراً جماعياً بالإستسلام للجنود والضباط المهاجمين وبتنازل الملك عن العرش ومغادرته وعائلته البلاد إلا أن الضباط وكما إدعوا فيما بعد كانوا غير واثقين من جدية القرار فأرسلوا ممثلاً عنهم ليسمعه من الأمير عبد الإله شخصياً الذي قال لهم quot; إن كنتم طلاب حق وشهامة فإن هؤلاء الموجودين أمامكم أمانة بأعناقكم وقد قرر الملك التنازل عن العرش وسنغادر العراق إذا سمحتم لنا بذلك وأنا أعطيكم عهداً أن لا أعود إليه quot; ولكن مافات الأمير هو أن من وجه لهم الحديث لم يكونوا كذلك ولو كانوا كذلك لما وقفواهذا الموقف أمامه وهو صاحب فضل عليهم فقد كان معروفاً بقربه وإحتضانه لضباط الجيش ولكن وكما يقول المثل العربي (إن أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا) وهو ماحصل بالفعل وكانت النتيجة إستشهاده وعائلته في تلك المجزرة المروعة.
ثم دعونا نسأل..أليس عبد الكريم قاسم نفسه من ضحايا إنقلاب 14 تموز الذي قاده وشارك فيه بنفسه ؟ فلو لم يأتي بأمثال من جاؤوا معه للسلطة في ذلك اليوم هل كان إنتهى به الحال مقتولاً بتلك الطريقة البشعة أمام شاشات التلفاز على يد جندي لايعرف أحد مَن ومِن أين هو ؟ مَن وما الذي جرّء هذا الجندي وأمثاله على ضابط كبير كقاسم غير قاسم نفسه ومافعله في 14 تموز ؟ ومن الذي جاء بعبد السلام عارف للسلطة ومن طمّعَه بها ومن أعطاه القوة لفعل مافعله في 8 شباط لولا ماسبقه ومهّد له في 14 تموز؟ ولو بقي قاسم ضابطاً مسلكياً أما كان من الممكن أن يصبح في يوم من الأيام رئيساً لوزراء العراق ولكن بشكل شرعي وليس عن الطريق الإنقلابات والقتل والدماء التي كان هو نفسه أبرز وأول ضحاياها ؟ ألم يكن الشواف ورفاقه ناظم الطبقجلي ورفعت الحاج سري وغيرهم ممن تم إعدامهم في ساحة جامع أم الطبول بعد عام واحد من إنقلاب 14 تموز من أول ضحايا هذا الإنقلاب الذي شاركوا بأنفسهم في التخطيط له وكانوا من أبرز منفذيه ؟ ألم يكن البكر ورفاقه حردان التكريتي وفؤاد الركابي وعبد الخالق السامرائي وغيرهم ممن شاركوا في إنقلاب 14 تموز وماتلاه من إنقلابات من ضحايا تداعيات ماحدث في 14 تموز ؟ ألم يكن من قتلهم وقام بتصفيتهم الواحد تلو الآخر من صنائعهم ومن تلك العينات التي جاء بها إنقلاب 14 تموز؟ ألم يكن ماحدث في 14 تموز 1958 هو الذي فتح أبواب جهنم على العراق وشعبه منذ ذلك اليوم وحتى هذه اللحظة بعد أن تلته بوابة 8 شباط ثم بوابة 17 تموز وأخيراً جائت بوابة 9 نيسان 2003 التي يبدوا أنها ستحرق العراق من شماله الى جنوبه إذا لم يتدارك العقلاء من أبنائه الأمور ويعيدوها لنصابها وأولها هو الإقرار بخطأ وسوء وفداحة ماحدث في 14 تموز الذي كان فاتحة هذه الأبواب جميعاً ؟ ألم يكن أبناء العراق الذين سقطوا بأحداث كركوك والموصل عام 1959 والذين سقطوا يوم وبعد إنقلاب 8 شباط 1963 والذين سقطوا يوم وبعد إنقلاب 17 نيسان 1968 والذين سقطوا في حرب إيران وحرب الكويت والذين قضوا بفعل الحصار الجائر الذي فُرِض على العراق في تسعينيات القرن المنصرم والذين سقطوا ويسقطون ظلماً وغيلة وغدراً منذ 2003 وحتى هذه اللحظة ألم يكن كل هؤلاء ضحايا ذلك التأريخ الأسود بعد أن تحكمت بمصائرهم منذ ذلك اليوم ثلة من مراهقي السياسة وقليلي الخبرة وضحلي الثقافة.. بل إن قائمة شهداء يوم 14 تموز1958 الأسود تطول لتشمل أغلب العراقيين الذي سقطوا على يد حكومات العراق التي أعقبت إنقلاب ذلك اليوم المشؤوم بدون إستثناء لأنه لو لم يحدث لما تعاقبت على العراق حكومات يقودها أما قتلة مجرمون أو عوام متهورون يرقص ويصفق ويهوّس لهم رعاع قاموا بقتل كل من خالفهم وعارضهم وأدخلوا العراق في دوامة من المشاكل والحروب أعادته وشعبه قروناً الى الوراء سياسياً وإجتماعياً وثقافياً وإقتصادياً كان قد تجاوزها أيام العهد الملكي.
لايستطيع كائن من كان فهِم طبيعة ذلك الحقد الأسود الذي دفع بعض من يمتلكون عقلية الغاب وتصرفاته الهمجية لتصفية العائلة المالكة العراقية بتلك الطريقة ولكن يبدوا بأنه قدر آل محمد كما كان الأمير الشهيد عبد الإله يردد دائماً عندما يقوم أحد بتحذيره من شيء quot; نحن أهل البيت نموت شهداء quot; وكأنه كان يستقرأ المستقبل عبر صورة الماضي وبالفعل نال وعائلته الشهادة ونال من قاموا بقتلهم تأنيب الضمير والهوس والجنون.. فكما فعل البعض بأجدادهم قبل 1400 عام حينما لم يكتفوا بقتلهم وإبادتهم من الشيخ الكبير الى الطفل الرضيع بل ودفعهم حقدهم للتمثيل بهم أعاد البعض الكرّة بنفس البشاعة بأحفادهم ولكن مالايفهمه ولايريد أن يفهمه البعض هو أن نسب هذه العائلة الكريمة سيبقى شامخاً وخالداً لأنه شجرة مباركة لم تنبت سوى فروعاً وأغصاناً مباركة فكانت إرادة الله ثم الأقدار لهم بالمرصاد ونجت الأميرة بديعة مع زوجها الشريف حسين وأولادهما الثلاثة من موت محقق كان بإنتظارهم وسهلت لهم الأقدار الخروج من العراق وقد أخذوا على عاتقهم منذ ذلك اليوم ولسنوات طويلة تلته إقامة مجلس تأبين سنوي في 14 تموز من كل عام بمحل إقامتهم في لندن على أرواح أقاربهم وأهلهم من أفراد العائلة المالكة لإستذكار أرواحهم الطاهرة التي سقطت ضحية الحقد والغدر في ذلك اليوم الشؤوم.
إن تأريخ العراق الحديث مليء بالأحداث الأليمة والمآسي المفجعة والكوارث المدمرة ولكن لكون ماحدث في 14 تموز عام 1958 كان مأساوياً وكانت له تداعياته على مستقبل العراق وشعبه وكان إمتداداً لما سبقه.. أقترح وأدعوا والأمر متروك لشعبنا العراقي الحبيب وأهله الطيبين أن يتم إعتبار تأريخ 14 تموز من كل عام يوماً للشهيد العراقي نقف فيه دقيقة صمت إستذكاراً لكل الأرواح البريئة التي سقطت ظلماً وعدواناً نتيجة للحدث الجلل الذي أصاب العراق وشعبه في مثل هذا التأريخ من عام 1958 والذي تجلت فيه أروع صور الشهادة التي عرفها العراق في تأريخه الحديث والتي لم تكن سوى إمتداد لتلك الصورالتي رسمها الأجداد من آل بيت النبوة قبل مئات السنين والذين أثبت أبناء العائلة المالكة العراقية بأنهم أحفادهم الحقيقيون قولاً وفعلاً وخلقاً ولم يأتوا كغيرهم من مشارق الأرض ومغاربها ليدّعوا إنتمائهم لهم في حين أن كل أقوالهم وأفعالهم بل وحتى سنحاتهم تقول العكس !.. وهذا سيكون أقل شيء وأبسط رد إعتبار لهؤلاء الشهداء البررة.
مصطفى القرة داغي
التعليقات