رحلة الثقافة العراقية من صدام حسين إلى المالكي

رغبتي دائما تتجاوز حدود رسائل الغرام إلى لغة العتاب، ولا ضير مادام من نحبهم هم أحق بهذا العتاب والحب. لست ممن يبيع ويشتري الكلام في سوق الكلام، ولا أحبذ لنفسي ان أكون موجها أو راهبا في نصح الناس، بالطلب منهم اتباع الوصايا العشر، أو ما تضمنه القران الكريم من نصائح وعبر، ولكنني فوق كل هذا أجدد ثقتي بذاك الضوء الذي ينبع من أعماق نفسي وأنا أتقيء من بعض سلوك القادة العرب الذين يحاولون وبكل ما يملكون ان يقربوا الشعراء والكتاب من حولهم من اجل ان يخلدهم التأريخ، والمثقفون وفق ذاك الاعتبار لم يكونوا سوى دمية غبية باطنها النفاق والدّجل، بحيث راح ذاك المتنبي العظيم يكيل المديح بحق الحمداني سيف الدولة، وذاك الشاعر البدوي الذي جاء من أقصى الصحراء يقدم باقة من شعره بحق خليفة لا يمتلك الكرم ويقول له أنت كريم، ويبتعد عن الأخلاق ويقول له أنت سيد الأخلاق، وبليغ والبلاغة بعيدة عن لسانه، كيف يمكن تصور هذا السلوك؟؟ وفي أية خانة يمكن لنا نحن الجالسين تحت خيمة الله ننتظر الفرج ان نصنف هذا النوع من الشعر سوى بالنفاق الثقافي، غاية الشاعر الشعر، وغاية الفنان الفن، وغاية الرسام الرسم هذا ما جاء به أصحاب نظرية الفن للفن في المدرسة الواقعية، ولكن غاية ذاك الشاعر الذي يكيل المديح بحق خليفتنا هي (سلطة المال).
من يتتبع تأريخ الشعر العربي عبر عصوره ابتداء من الجاهلية مرورا بالعصر الإسلامي فالعباسي وصولا إلى العصر الحديث، يجد هذه الأنساق الفجة التي ما تزال فاعلة بين المثقف والسياسي، إذ لا يجد المثقف لبضاعته الثقافية من شاري أكثر من الخليفة والسلطان، وللأسف هذا السلوك غير المتحضر هو الذي حكم عادتنا وتقاليدنا الثقافية.

جاء في بعض المصادر:
وقف الخليفة عمر بن عبد العزيز في يوم عيد الفطر يستقبل المسلمين، ويرحب بالمؤمنين، وإذا بكوكبة من الشعراء عند باب الغرفة، يريدون الدخول، قال له البوّاب: شعراء يريدون الدخول عليك على عادتهم السابقة عند الخلفاء، يدخل أحدهم بقصيدة خاطئة كاذبة، يمدح نفاقًا، يثني بكلام مجاملة، فيصف الخليفة بأنه محرر الشعب، وبأنه كافل الأيتام، وبأنه أستاذ المشاريع، وبأنه درة الأفق.
فقال للبواب: من بالباب؟ قال الفرزدق. قال: والله لا يدخل عليَّ عدو الله وقد سمعته يتغزل في بنات المسلمين. ومن الآخر؟ قال: الآخر نصيب. قال: ليس له عندي نصيب ولا يدخل عليّ؛ سمعته يفتري في شعره. ثم قال: ومن الثالث؟ قال: الأخطل. قال: حرام على ابن النصرانية أن يطأ بساطي.
والرابع: قال: الرابع عمر بن أبي ربيعة قال: أما آن له أن يتوب إلى الله، والله لا ترى عيني وجهه. ومن الخامس؟ قال: جرير. قال: إن كان ولا بد، فأدخل جريرًا، فلما دخل قال له:
فما كعبُ ابن مامةَ وابن سعدي بأفضل منك يا عمر الجوادا
تعوّد صـالح الأخـلاق إنـي رأيتُ المرء يلزم ما استعادا
قال عمر: اتق الله يا جرير، لا تكذب في شعرك، فإن الله سوف يسألك عن هذا. قال يا أمير المؤمنين: أعطني قال: ما وجدت للشعراء في كتاب الله عطاء، إن كنت فقيرًا أو مسكينًا أو ابن سبيل أعطيناك.
صورة المثقف الذي لا يرغب الانفصال عن السياسي بوصفه تابعا، راح يتشكل في ضوء الممارسة التي يرغب فيها السياسي، ومن جهة أخرى ثمة سلوك غريب دخل عصرنا الحديث يتمثل في تحول الشاعر من اللعب بالكلمات إلى اللعب بالعضلات، نتيجة اقتراب المثقف من السلطة الديكتاتورية، بحيث لم يتبق للمثقف أي دور تنويري يساعد على خلق مجتمعات ديمقراطية غير ظلاميّة.

انقلاب جذري لمشروع المثقف العراقي:
لم يكن في الحسبان أن يتحول المثقف سواء كان شاعرا أم رساما إلى أداة قمعية بيد السلطة، بيد ان هذا التحول قد بدأ بالظهور مع الانقلابات السياسية التي رافقت عمر الدولة العراقية، وهو ارتباط مشوب بالخيبة والحزن، إذ حول هذا المثقف إلى مسؤول قمعي يكون على عاتقه متابعة من هم اقرب إلى اشتغاله في المستويات الثقافية، بمعنى التحول من اشتغال لغوي إلى اشتغال عضلي بوليسي، ولعل النقطة الأقرب للتمثيل ما ذكره الرسام علاء بشير في كتابه: حيث يذكر كيف ان النائب صدام حسين جنّد الشاعر والرسام شفيق الكمالي بحيث تحول إلى أداة قمعية....

جاء في بعض المصادر كتاب علاء بشير كنت طبيبا للرئيس:
كانت العلاقات بين الرجلين القويين في بغداد وطهران قد تجمدت بعدما القي الخميني في شهر أكتوبر من عام 1978 خارج مدينة النجف في العراق ــ المدينة المقدسة لدي الشيعة ــ حيث كان آية الله يبلغ من العمر آنذاك ستة وسبعين عاما. كان قبلها بأربعة عشر عاما قد عبر الحدود إلى العراق ونزل بالقرب من ضريح الإمام علي بعدما احتدم الخلاف بينه وبين الشاه، واضطر إلى الذهاب للمنفي.
كان الشاعر والأديب الذي تقلد منصب وزير الإعلام والثقافة، شفيق الكمالي، قد كُلف بإبلاغ الخميني برسالة صدام التي فحواها ان استمرار بقاء آية الله في النجف من شأنه ان يصبح خطرا على امن العراق ومصلحته القومية، وانه بالنظر إلى الحالة غير المستقرة والمتوترة في إيران، وحفاظا على العلاقة بين البلدين، فإن عليه ان يرحل.

لا سلام ولا نظرة:
دخل الكمالي ومعه وفد كبير شقة الخميني في المدينة المقدسة، وقبل ان يسمح لهم بالدخول على الخميني، ظهر سكرتيره الخاص واخبرهم ان آية الله الخميني لا يرغب في مصافحة احد، وان عليهم ان يكتفوا بتحية الإسلام المعروفة laquo;السلام عليكraquo;، وعندما دخلوا الحجرة التي يستقبل فيها الخميني ضيوفه، كان الخميني يجلس مع المترجم على الأرض. قال الكمالي: laquo;السلام عليكمraquo;، لكن آية الله رد عليه السلام ببرود ولم ينهض أيضا، فكان على أعضاء الوفد العراقي ان يجلسوا هم أيضا على الأرض، قبل ان يصرح وزير الإعلام والثقافة برغبة صدام.
كان الخميني يحملق في سقف الحجرة أو في مترجمه أو سكرتيره بشكل لافت للانتباه، فلم يكن لينعم على وزير الإعلام أو أي من المبعوثين من بغداد بنظرة واحدة. كان يجيب عن الأسئلة بنعم أو بلا، أو يترك مهمة الإجابة عنها لسكرتيره الخاص. ولم ينظر الخميني إلى الرسل القادمين من بغداد الا بعد ان انتهي الحديث الذي لم يدع فيه الكمالي مجالا للشك في انه لا يوجد حل آخر سوي أن يغادر الخميني العراق في اقرب وقت ممكن.

محرك نفاث:
laquo;كان ينظر إلينا الواحد تلو الآخر دون أن ينبس بكلمة، كان له حضور قوي. كنت اشعر كما لو كنت أقف في مهب محرك نفاث عندما كان يصوب عينيه نحوي. بدأت ارتعدraquo;، ذلك ما رواه لي الكمالي فيما بعد مضيفا: laquo;كان لدينا جميعا الشعور نفسه عندما خرجنا من عندهraquo;.
كان شهر رمضان المعظم قد بدأ عندما بدأ آية الله وأتباعه يتحركون من النجف إلى البصرة ليعبروا من هناك الحدود إلى الكويت. غير انه لم يسمح له بالعبور في أول محاولة بسبب بعض المشاكل المتعلقة بالتأشيرة الخاصة به، فاضطر إلى الرجوع وقضاء الليل في فندق قريب من مطار المدينة.
كان مدير الصحة في المحافظة آنذاك، نزار شاهبندر، عضوا في لجنة مهمتها الإشراف علي كل شيء يخص فترة إقامة الخميني والاعتناء به. laquo;كان الخميني غاضبا وثائرا بشكل جنونيraquo;، ذلك ما قاله لي شاهبندر فيما بعد. لم يكن يرغب في التحدث مع احد، كما امتنع عن تناول وجبة الإفطار في الفندق. لم يتناول الخميني شيئا من الطعام الا عندما عبر الحدود الي الكويت في مساء اليوم التالي، حيث أراد البقاء هناك إلى أن يستقل الطائرة إلى فرنسا.
ربما لم يكن غريبا على صدام - الذي كانت تُنقل إليه بالطبع كل التفاصيل ــ ان يتوقع وفق تصوراته البدوية ان الخميني سوف ينتقم لنفسه ان آجلا أو عاجلا فكان لابد لصدام أذن من أن يسبقه.

رواتب الادباء سياق دكتاتوري:
ربما القبول بمنطق الرواتب في زمن صدام يعود الى العوز والجوع الذي اصاب الادباء، ولكن مع التغيير الديمقراطي لم يعد مبررا القبول بمنطق الرواتب الذي اقترحه المالكي بعد التوصيات التي طالب بها الاتحاد العام للادباء والكتاب لاكثر من مرة اسوة بأدباء كوردستان وكذالك نقابة الصحفيين تباعا، وهذا الأمر في تحديد رأسمال المثقف العراقي طريقة غير صحيحة في التعامل وستجر الثقافة العراقية-بلا شك- إلى كارثة قائمة على اساس الكسل المبرمج، فلا حاجة الى حراك ثقافي لان المثقف مؤمن راتبه الشهري، اضف الى ذالك تعد هذه الطريقة محاولة لشراء صوت المثقف...اعتقد من الواجب(رئاسة الحكومة) ايجاد طرائق اكثر حضارية في التعامل مع قضية دعم المثقف العراقي، ونحن اذ نقدم هذا النقد انما نسعى الى الابتعاد عن السلبيات التي انغرزت في وجداننا وثقافتنا.

اتحاد الأدباء مراهقة يسارية:
العنوان الذي تصدر المقالة يفترض وجود علاقة متشابه ما بين وضع الثقافة في زمن صدام والمالكي من حيث الهبات والهدايا، ونحن نخشى أن تتحول القضية مع مرور الوقت إلى تجنيد إلزامي للمثقف عبر سلطة المال، بحيث يكون صوته حكوميا(قمعيا).
أنا أدرك ان أبي الذي اعتقل في سجن كركوك قد اتخذ لنفسه ميزة الموقف، وان ذاك الفلاح الذي سحب سلاحه ليبعد الغربان جاء ببندقيته ليحمي زرع الناس، أما الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق الذي اغلب من يديره من اليسار(ان كانوا من اليسار فعلا)، من الصعب تحديد موقف محدد لهم، وذالك نابع من المصالحة الشخصية التي يركضون خلفها، لا ابتكر أو اخترع أو أزيف هذا الهجوم بحجة مصالح شخصية، وإنما أقدم الصورة ليطلع من أراد إلى مهزلة الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، فعند ذهابهم إلى رئيس الوزراء السيد نوري المالكي-في وقتها- لم يهمهم من اللقاء سوى ان يضعوا في جيوبهم الـمليوني دينار، وكان الأحرى بهم ان كانوا أصحاب مواقف ان يقدموا إلى رئيس الوزراء الطريقة المثلى في التعامل، اما يكفينا من المديح ما مر في تاريخنا المعبأ بالأخطاء، اما كان من باب أولى ان يكونوا أصحاب مواقف؟
لا اعتقدhellip;!!!!
ما دام من يقود الاتحاد يخرج في جلسة اتحادية أمام الجميع ليشكك ويطعن في المجلس العراقي للثقافة مشككا في النوايا والشرعية التي ينطلق منها، ومتخذا من ذالك صورة المؤامرة التي تحاك ضد الاتحاد، ولكن ما الحجة التي تقف خلف تغيير الأمر... والموقف؟
نحن ندرك جيدا إن الأمر قد تغيير بسبب توجيه الدعوة إلى الأمين العام بعد لم يكن صاحب دعوة...فتافيت يعتاش عليها الصغار...ولن يقدم الصغار مهما كبروا أشياء عظيمة في بلد نحن أحوج إلى الخروج من محنته التي زرعها صدام فينا....

إذن:
ما هي العلاقة بين المثقف واتحاد الأدباء والسياسي...؟
سؤال مهم وجذري...يستدعي منا الفصل بين الاتحاد والمثقف، إذ ما تزال الدولة العراقية تعتقد بان الاتحاد هو الممثل الوحيد للمثقف، هذا الأمر يدعونا إلى التفكير في مستقبل الثقافة العراقية، وهذا ما لا يمكن قبوله بافتراض ان من يتصدر الاتحاد ليس بالضرورة ان يكون ممثلا حقيقا للاتحاد لا سيما بعد انتهاء الوجود الشرعي لهم الذي يخولهم للتعبير عن رأي المثقف عن طريق واجهة الاتحاد.
لا استطيع ان اتصور وضع من يتصدر اتحاد الادباء لانهم خارج الاطار القانوني، وانا ادرك بان المثقف من اوائل المطالبين بالديمقراطية...وهذا ماشهدته بيانات المثقف العراقي عبر تاريخه النضالي الطويل.
على السياسي ان يدرك ان الاتحاد العام للأدباء والكتاب في كل البلدان لن يكون ممثلا للمثقف، ثم من باب الأمانة التاريخية، ليس من حق المالكي ان يمنح من يتزعم الاتحاد مبالغ مالية، لان هذا الأمر سيفضي بنا بلا شك إلى زرع الشك في نفوسنا إلى تحول الثقافة إلى مشروع حكومي.

د. أثير محمد شهاب: