العراق: بلد الحروب والنزاعات

قد تكون أرض العراق قد شهدت من الحروب الدامية والنزاعات أكثر من أي بقعة على هذا الكوكب، ولا يكاد شعبه يخرجون من حرب حتى يدخل أخرى. دخل الغزاة العراق على شكل موجات متتابعة، من الشرق فى طريقها الى أرض الشام ومصر، من الشمال فى طريقها الى اليمن، ومن الغرب فى طريقها الى فارس. ثم جاءت الموجة العربية من الجنوب ودخلت الجيوش الاسلامية العراق واتخذت منه قاعدة لضرب الحضارتين الفارسية والرومانية. ثم بنيت بغداد فى عهد المنصور وأصبحت مركز الحكم العباسي.

حكم العراق 37 خليفة عباسي أولهم أبو العباس (السفاح) وآخرهم المستعصم بالله، 22 منهم ماتوا ميتة طبيعية و12 قتلوا، و2 سملت عيونهم، و واحد خلع من الخلافة. ومن الخلفاء من قتل (بفتح القاف) ابنه أو أخيه، ومنهم من قتل على أيدى أقرب الناس اليه. واحتل العراق اثناء الحكم العباسي من قبل الأجانب مرتين : البويهيين الفرس، والسلاجقة الأتراك. ثم جاءت موجة المغول الراعبة، وخربت ما كان فى العراق من حضارة وعمران، ودام حكمهم 250 عاما. ثم جاء الحكم الفارسي ودام حوالي 25 عاما، الى أن احتل السلطان سليمان القانوني بغداد عام 1534 م.

وقامت فيما بعد حروب طويلة بين الأتراك والفرس فى عهد الدولة العثمانية، وكان العراق مسرحا لمعاركهم ونزاعاتهم المستمرة الطويلة. وبدلا من أن يتحد العراقيون لصد الأعداء فقد انقسموا الى شطرين : سني وشيعي يعادى أحدهما الآخر. كانت الجيوش التركية تدخل من الشمال، فيسارع أهل السنة لنصرتها نكاية بالشيعة، وتدخل الجيوش الفارسية من الشرق فيسارع الشيعة لنصرتها نكاية بالسنة. وبدأت نفوس العراق فى تناقص مستمر نتيجة لتلك الحروب وما تبعها من أمراض فتاكة ومجاعات وفتن. وكأن ذلك لم يكن كافيا، فقد أخذت فيضانات دجلة والفرات تتكرر فى كل عام تقريبا فتهلك الحرث والنسل وتخرب المدن والقرى. ولم يحل القرن العشرين الا وكان عدد سكان البلاد قد تناقص الى أقل من مليونين، وقيل أنه كان قد وصل الى أكثر من عشرين مليونا فى بعض مراحل الحكم العباسي.

الحضارة الغربية ومقاومة رجال الدين لها

كانت البلدان العربية كلها تقريبا تئن تحت نير الحكم العثماني، حيث كانت خيراتها تنقل من قبل الولاة الأتراك الى الاستانة (اسطنبول)، بينما أهلها يعانون من شظف العيش والجوع والجهل والمرض. بدأت الأمور تتحسن فى مصر بعد دخول نابليون اليها فى سنة 1798 ورافق حملته عدد كبير من العلماء والأطباء والمهندسون والفنيون، ومع أن الحملة استمرت ثلاث سنوات الا أنها أثرت كثيرا على المصريين الذين اكتشفوا الحضارة الغربية. ولكن البعض من رجال الدين والجواسيس البريطانيين أخذوا يشيعون بأن الفرنسيين سيقضون على الدين الاسلامي، ونادوا بمحاربة الكفار. وبالرغم من ذلك فقد تركت تلك الحملة بصماتها فى مصر فى كل المجالات وما تزال ظاهرة للعيان حتى اليوم.

وفى أثناء الحرب العالمية الاولى دخلت الجيوش البريطانية الى العراق وطاردت فلول الجيش العثماني وتحرر العراق من حكم بغيض دام زهاء أربعة قرون. وبدأ البريطانيون بادخال الحضارة الأوروبية بمحاسنها وسيئاتها الى العراق، وكما حصل فى مصر فقد قام بعض رجال الدين باثارة الناس عليهم، وأعلنت المرجعية الشيعية الجهاد ضدهم، وتبع ذلك قيام ثورة العشرين، ونال العراق استقلاله (الصوري فى الأقل)، وتشكلت حكومة (وطنية!!) برئاسة عبد الرحمن النقيب الكيلاني بتأريخ فى 25 تشرين الأول/اكتوبر 1920.

الملكية فى العراق

واختلف العراقيون اختلافا شديدا حول من يكون ملكا على العراق، ورأى البريطانيون أنه لا يمكن للعراقيين الأتفاق على اختيار ملك من بينهم، فاختاروا لهم الملك فيصل الأول بن الحسين شريف مكة الذى كان قد فقد عرشه على سورية، خاصة وان نسبه ينتهى الى الامام علي بن أبى طالب (ع)، فوافق السنة والشيعة على هذا الاختيار. وخصص له راتب مقداره عشرون ألف ينار سنويا، وخصص راتب لكل وزير من الوزراء مقداره مائة وخمسون دينارا شهريا!!!.

ويختلف المؤرخون حول الملك فيصل الأول، فمنهم من يعتبره مخلصا أمينا للعراق ومنهم من يقول عنه أنه كان عميلا للبريطانيين، ولكن الواضح أنه كان يتوق الى أن يصبح ملكا ولو على جزر الواق واق. وكان جل اعتماده على شيوخ العشائر والاقطاعيين. وقيل انه قد سمم عندما كان يعالج فى سويسرا. وفى خلال فترة علاجه تمرد الآثوريون الذين جلبهم الانكليز من أواسط آسيا، فهاجمهم الجيش العراقي بقيادة الفريق بكر صدقي وقضى على التمرد. وتكررعصيان الأكراد المطالبين بالانفصال، كما تعددت ثورات العشائر مما كبد العراق الكثير من الخسائر فى الأرواح والأموال. ان الظروف الفظيعة التى حكم فيها فيصل الأول العراق لا يمكن تصورها ولا يمكن مقارنتها الا بالأوضاع التى حلت بالعراق بعد سقوط البعثيين وفرار قائدهم.
وخلف فيصل الأول على العرش ابنه الملك غازي الذى كان يعارض تدخل البريطانيين فى الشئون العراقية، ولا يخفى ميله الى ألمانيا النازية وهتلر. وعندما وافاه القدر المحتوم بكاه أكثر العراقيين.

انقلابات متوالية

دام حكم الملك غازي ست سنوات، فى اثنائها قام الفريق بكر صدقى بانقلاب عسكري راح ضحيته وزير الدفاع جعفر العسكري، وبعد تسعة أشهر قتل بكر صدقى. وقتل الملك غازي يوم 14 نيسان/ابريل 1939 بحادث سيارة (أو اغتيل نتيجة مؤامرة حاكها عبد الاله ونورى السعيد وبتخطيط بريطاني) وكان ابنه فيصل الثاني ما يزال صبيا، فقررت العائلة المالكة تنصيب خاله عبد الاله وصيا عليه لحين بلوغه سن الرشد.

لكن سرعان ما تمكن أربعة قادة عسكريين موالين للحكم النازي فى ألمانيا، وهم قادة الفرق الأربع العقداء صلاح الدين الصباغ ومحمود سلمان وفهمي سعيد وكامل شبيب من السيطرة على الحكم عام 1941 ففر عبد الإله متخفيا من قصره ولجأ إلى السفارة الأميركية ثم إلى الأردن. واستطاع عبد الإله وبدعم من الأردن وبريطانيا أن يسقط الحكومة الانقلابية التي كانت برئاسة رشيد عالي الكيلاني، وعاد عبد الإله ونوري السعيد إلى بغداد وأعدم قادة الانقلاب.

أخذ الضباط يعملون في الخفاء حتى تمكنوا بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم من الإطاحة بالنظام الملكي في ثورة 14 يوليو/تموز 1958. وقتل الملك فيصل الثاني والعديد من أفراد العائلة المالكة. وبعد يوم واحد قتل نوري السعيد على أيدي جنود عراقيين في ساحة النصر ببغداد بعد أن تعرف البعض عليه بالرغم من لبسه عباءة نسائية. وهكذا اسدل الستار على الحكم الملكي الذى استمر ما يقرب من أربعين عاما شهدت انجازات عظيمة كما شهدت حكما يمكن أن يسمى (بوليسيا). ومهما تكن الخلافات حول نورى السعيد فان الشيء الواضح والذى لا يمكن نكرانه هوأن سياسته الممالئة لبريطانيا قد حمت العراق من الجيران المتربصين به. وأتذكر جيدا ما قاله فى آخر خطاب له بعد عقد (حلف بغداد) الذى اشتمل على كل من العراق وايران وتركيا وباكستان وبريطانيا ثم الولايات المتحدة : (دار السيد مأمونة).

يتبع

عاطف العزي