لم أكتب يوماً احتفاءً بأي نصر.. أكره الانتصارات، وتقرفني نشوة الظافرين. لكني سأكتب هذه المرة عن انتصار غزة.. انتصار أطفالها ونسائها ورجالها وأحجار بيوتها المهدمة. أكتب عن انتصار الشهداء على القتلة. لا يعنيني الانتصار الذي يتبجح به quot;الناطقونquot; بل الانتصار الذي تخفيه عيون الصامتين. انتصار الأمهات والآباء حين يعثرون على كلمة يطمئنون بها أطفالهم المرعوبين.. انتصار العائدين إلى ما تبقى من منازلهم وما لم يتبق منها ليواصلوا إبداع الحياة.

لا تعنيني المكاسب السياسية لأي طرف وحسابات الربح والخسارة، تعنيني قوة المثال وخلود الرمز. غزة الشهيدة هي رمز لما تبقى من الإنسان وهو يقاوم نصفه الآخر، نصفه المتوحش الذي يزداد توحشاً، ويزداد غباوة وهمجية. quot;أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟quot; سؤال يجيب عليه شهداء غزة حيث يكتب دمهم كلمة quot;كلاquot; كبيرة.. كلا! نحن الذين نرث الأرض. الأرض كل الأرض لنا.. ونحن كل ما تبقى من الإنسان في الإنسان.

دماء غزة المسفوحة على الرمال وأجساد أبنائها التي ثقـّبها quot;الرصاص المسكوبquot; وأنقاض بيوتها ومدارسها ومساجدها.. كل ذلك لم يذهب هدراً، كما يعتقد الذين يحسبون كل شيء بمقاس المكاسب والخسائر الآنية.. لم يذهب هدراً، كما لم يذهب هدراً دم المسيح المصلوب، ودم الحسين المقتول مع أطفاله. انتصرت غزة كما انتصر المسيح وكما انتصر الحسين. انتصرت غزة على آلة الحرب الجهنمية مثلما انتصرت هيروشيما على القنبلة النووية، ومثلما انتصرت حلبجة على الغازات المبيدة.

أجساد اليهود التي تفحمت في هولوكوست النازية طهرت أوربا من جزء من همجيتها وأعادت الأوربيين إلى جوهرهم الإنساني. وأجساد أطفال غزة المقطعة الأوصال ستطهـّر يهود اليوم من الوحش الذي تقمـصهم، وستعيدهم تدريجياً إلى جوهرهم الإنساني. أولمرت القاتل ذاته يزعم إنه بكى لمشاهد الأطفال الفلسطينيين. ليس مهماً ما إذا كان صادقاً، المهم أنه قالها. المهم أنه اعترف بالألم البشري الفلسطيني. هذا الاعتراف، حتى ولو كان دعائياً، سيقض مضجعه، وسيجعل أشباح الصبية القتلى تلاحقه في اليقظة والمنام. سيولد من هذا الندم، من هذا الاعتراف، من هذه المكابرة، يهودي آخر. يهودي يتذكر أسلافه في أوشفيتز، ويقارنهم بضحاياه في غزة. سيشعر بهول جريمته ويندم. ومن يندم يعد إنساناً.

هل هناك انتصار أكبر من هذا.. أن تعيد قاتلك المتوحش إلى إنسانيته؟ إن لم يحدث هذا اليوم، سيحدث غداً. إن لم نشهده في حياتنا فستشهده الأجيال القادمة. لكنه آت بالتأكيد، وإني لأراه أمامي. أرى البشرية وهي تحج إلى غزة للتكفير عن خطاياها، مثلما يحج الأوربيون اليوم إلى أوشفيتز. أنحني لكم أيها الشهداء.. وأنحني لكم أيها الناجون. ستحكون للبشرية قصة انتصاركم، وترون في عيونهم الخجل والندم والحزن، وستغفرون. وهل يغفر إلا المنتصر؟

شعلان شريف