يبدو حلف ما يسمى بالاعتدال العربي في ورطة ومأزق اليوم ولاسيما بعد ما جرى من مذبحة ومحرقة بربرية وهمجية في غزة وما ظهر من عملية فرز حادة أظهرت ذاك الحلف وكأنه رديف وظهير ونصير لإسرائيل، حيث لم يكن هناك أي مجال لأي خيار أو تفاضل بين المواقف، فإما الوقوف في حلف إسرائيل وإما في حلف المقاومة، أي إما مع أو ضد، ونستعير هنا مقولة طيب الذكر جورج بوش. ولم تعد أنصاف المواقف، وأشباهها، والتنقل بين بين، ولا مع هذا ولا ذاك، مجدية أو نافعة على الإطلاق. وبالمقابل، فقد أظهرت جوقة ما يسمى بالليبراليين العرب، ضحالة في رؤيتها التاريخية وتفسيرها السطحي المبتسر لطبائع الصراعات وجوهرها الإنساني والحضاري، وما تكنه تلك الجوقة من حقد لكل قيمة نضالية تحاول أن تترسخ في ركام التوحيل والتقبيح التاريخي التي تعرضت لها مجمل المنظومة القيمة في المنطقة على أيدي برابرة الفكر الميثيولوجي المقدس. (طبعاً لم تنج الليبرالية كنهج وفكر ومبدأ ونظام حياة من التشويه حين تمت معالجتها في معامل العقل البدوي الذي أصبحت مهمته التاريخية ترثيث وتقبيح وتبشيع أية قيمة وجمال أنتجها العقل البشري عبر تاريخه الطويل. وصارت الليبرالية العربية تعني في أحد وجوهها التحلل القيمي والانفلات الأخلاقي والانحطاط العقلي والاستضحال المعرفي).

ولم يكن من قبيل المصادفة البتة، أو العبث الدعائي الاستعراضي العشوائي، أن يرى الإنسان تلك المظاهرات الغاضبة والحاشدة الصاخبة والعفوية التي جابت كبريات العواصم كباريس، واستانبول، ولندن، وغير عاصمة إسلامية وعالمية، لتؤكد على طبيعتها الإنسانية والقيمية الإيجابية وتخندقها الطبيعي أمام حدث جلل بمكانة مذبحة غزة، في الوقت الذي خيم الصمت وغيـّم الهدوء فوق عواصم الأعاريب المقدسة ذات البعد الأسطوري، وانبرى فيه رهط من شيوخ الاستفتاء الموجـّه الكبار المطبقين على الكهنوت الديني الرسمي العربي الإسلامي لإستصدار الفتاوي التي تؤيد المذبحة وتحرم أي شكل من التظاهر أو التضامن مع أطفال غزة ووضعه في موضع الإثم والردة والكفر، كل ذلك في دعم واضح مباشر وغير مسبوق لإسرائيل لم تتجرأ عليه أعتى منظمات اليمين المتطرف الصهيوني، أو النيونازية الغربية التي باتت تتشكل بقوة ونسقية في الغرب اليوم.

وكنا سنتفهم كل مبررات حلف الاعتدال العربي حول مسؤولية حماس عما جرى، لولا أن في ذاكرتنا اللعينة، التي تأبى أن تنسى مجازر ومذابح لا تقل دموية وضراوة جرت، على سبيل المثال لا الحصر، في دير ياسين، وجنين، وبحر البقر، وقانا1، وقانا 2، وعمليات القتل المنظم والمتعمد وبدم بارد لأسرى مصريين، حيث لم يكن وقتذاك كل هذا الهرج والمرج الصبياني عن حماس أو حزب الله الصفوي، ولا أي كلام عن تغول شيعي وإيراني، ولا نظام سوري quot;تابعquot; يدور في فلك الصفويين والمجوس الفرس كما يحاول أن يدفع ملابرة الأعاريب في معرض تبريرهم لمذبحة غزة، بل على العكس من ذلك لقد كان المحور السوري-السعودي- المصري-الأردني على وفاق تام في تلك الأيام الخوالي الرومانسية المضيئة من المغفور له التضامن العربي الذي شيـّع مؤخراً، والبقاء لله، إلى مثواه الأخير، فلم تنفك، في حقيقة الأمر، آلة الموت البربرية الصهيونية عن ارتكاب أفظع الجرائم والمجازر بحق شعوب المنطقة المرة تلو الأخرى، منذ أن تم زرع هذا الكيان البربري الغاشم المغتصب الهجين في القلب من هذه المنطقة.

لقد كانت قوة ضغط الرأي العام العالمي الغريزي التي لا تخطئ أقوى من هدير الدبابات والطائرات، ومن أزيز الرصاص، ومن انفجارات الفوسفور الأبيض واليورانيوم المنضب ومن قرقعة وجلبة كل المنافقين والشياطين المرائين. وانقلب سحر إسرائيل، ومن معها، على سحرتها من الجنرالات والقتلة، ولم تنفع ماكينات القتل في إحراز أي نصر بسيط على مجرد سكان وأطفال صغار عزل ومدنيين آمنين، كما لم تنفع الإمبراطوريات الإعلامية، إياه، وما غيرها، في منع رسم صورة المأساة كما هي، أو في تشكل ذاك الوعي الفطري السليم وذاك الشعور الطاغي، بحقيقة الموقف الذي تجلى بالسخط والغضب والحنق والمظاهرات العارمة التي عمت العالم من أقصاه لأقصاه ضد الغزاة والقتلة ومجرمي الحرب الصهاينة، كما لم يفلح كل ذاك التزييف والتضليل والحملات الإعلامية المنظمة في زعزعة إيمان، وثقة، وقناعة رجل الشارع البسيط بمن هو المجرم الحقيقي المدان بكل الاعتبارات والمقاييس، شعر معها وعندها حلف الاعتدال العربي بأنه في ورطة فهذا تحصيل حاصل، وبات يواجه هزيمة في تاريخه، ويعاني من أعمق أزمة بنيوية وجودية منذ إرساء القواعد الهشة للنظام الرسمي العربي. عجز وهوان وهزيمة أظهرت مناصريه ومؤيديه في خندق ومعسكر مهجور ومعزول، فيما وقفت كل شعوب العالم في خندق أطفال غزة الجياع المظلومين المحرومين المحاصرين.

نضال نعيسة
[email protected]