تميزت الحروب العربية الاسرائيلية، بعد التزامها من قبل نظام ولاية الفقيه، بالانتصارات الكاسحة الماسحة. انتصارات قد لا يكون ضرورياً ضمن إيديولوجية النظام الإيراني، ووكلائه، انتظار نهاية العمليات العسكرية لإعلانها، كما جرت العادة بالنسبة لكل الانتصارات في الحروب عبر التاريخ. بل قد يجوز ويحق للإطراف المدعومة أو المدفوعة من قبل النظام الإيراني إعلان النصر بمجرد خوضها ساحة المعركة، وبغض النظر عن شكل النتائج الممكنة أو تداعياتها. دون أن يعني ذلك أنه أحداً يتمنى أن تكون مثلا إسرائيل هي الجهة المنتصرة، بل على العكس ما من إنسان تجري في عروقه مجرد دم إنسانية كي لا نقول عربية، إلا ويستنكر ويدين تمادي عربدة إسرائيل ووحشيتها في استباحة الدم العربي، في مسلسل لحروب غير متكافئة خاضتها وتخوضها ضد العرب على مرأى العالم أجمع. هذا العالم الذي يسمي نفسه متحضراً ويدعي حماية ورعاية شرعة حقوق الإنسان.
وبغض النظر عن الجهة البادئة بالنزاعات العسكرية، أو المسببة لها، أن في غزة أو قبلها في جنوب لبنان خلال حرب تموز، ومن غير ولوج الأسباب الكامنة وراء اندلاع الحروب الاسرائيلية العربية الأخيرة، بات من المعهود انتظار وتوقع أمرين يواكبان مراحل هذه الحروب، أولهما كما سبق وقلنا إعلان النصر أيا كانت النتائج، وثانيهما الاستدارة نحو الداخل عند نهاية الحرب من أجل تحميل بعض أطراف هذا الداخل ثمن ارتكاب تنسيق quot;افتراضيquot; مع العدو، أو بصريح العبارة تخوينهم عن طريق اتهامهم بالتواطؤ مع هذا العدو. وهذا التكتيك الذي بات واضح المعالم، ومكشوف الأهداف أنما يُستعمل من قبل الملتزمين بإيديولوجية ولاية الفقيه، بهدف استثمار النصر المعلن، على الصعيد الداخلي، كما حدث بعد حرب تموز، إذ استعمل شعار quot;النصر الإلهيquot; كوسيلة للمطالبة بالثلث المعطل في الحكومة اللبنانية، فحوصر البرلمان وشلت الحياة السياسية، وضربت الخيم واستبيحت الاملاك العامة والخاصة على مدى نيف وسنة،دون النظر إلى الاعتبارات الكارثية الناتجة عن ذلك على مستوى حياة المواطنين، وعلى الصعيدين السياسي والاقتصادي بشكل عام.
وبعد انجلاء أهداف هذا السيناريو ومراحله، وبعد تلمس معالم مسلسل مطابق ومشابه في المرحلة الحالية عند نهاية حرب غزة،، بات يبادر إلى الذهن تساؤل حول احتمال تجدده في الداخل المصري نظراً للحملة المركزة على مصر اليوم، والتي تذكر بالحملات التخوينية التي استهدفت حكومة السنيورة قبل حرب تموز وخلالها، كما استهدفت قبل وخلال حرب غزة وبالطريقة ذاتها السلطة الفلسطينية الرسمية والمتمثلة بحكومة محمود عباس الشرعية. وبما أن الهجوم الحنجري على مصر انطلق وعلى مدى الفضائيات العربية quot;الممانعةquot;، باتت تحوم حول أهداف هذه الحملة أكثر من علامة استفهام. أي هل سوف تستكمل الحملة التخوينية على مصر بحرب ما عليها أياً كان شكلها؟ وهل الوعد quot;بالنصر الأكيدquot; على الخونة والعملاء، سوف يمهد لمرحلة الإطاحة بالسلطة القائمة في مصر اليوم؟ يبقى أن الفارق بين هذا السيناريو quot;الافتراضيquot; المستهدف جمهورية مصر العربية، وبين السيناريوين السابقين في لبنان وغزة، يكمن في احتمال تمحور النصر المنتظر في مصر، في زعزعة أوصال السلطة القائمة، كبديل للعدو التقليدي، كون فخ جر مصر لحرب مع إسرائيل لم يفلح. فبرنامج تأليب الشعب المصري حتى يضغط على السلطة من أجل فتح معبر رفح لم ينجح. ولو نجح وفتحت مصر معبر رفح بالكامل، لكانت تحملت تبعات ذلك، لأن إسرائيل حينها سوف تحملها مسؤولية تهريب الأسلحة عبر المعبر، وهو وضع كان سيؤدي إن لم يكن إلى حرب بين البلدين، على أقله كانت سوف تنتج عنه قطيعة، قد تترجم بإغلاق السفارات وسحب الهيآت الدبلوماسية، ومن ضمنها أيضا احتمال حصول تطورات وتشنجات أخرى. وكون اندلاع أي حرب هي بحاجة لنية ورغبة على أقله أحد الطرفين بها، فلا إسرائيل أبدت استعدادا لفتح جبهة مع مصر، ولا مصر أبدت استعدادها للوقوع في فخ معبر رفح، على خلفية تحوله لمقبرة لعملية السلام المبرمة بينها وبين إسرائيل في كامب دايفد.
لم تقع مصر في الفخ؟ ممكن، ولكن ذلك لا يعني انكفاء الجهود الآيلة لزعزعة الأمن والاستقرار في داخلها. فبعد فشل احتمال جر مصر للحرب مع إسرائيل، لما لا يكون افتعال فتنة داخلية هو البديل. فالسلطة القائمة هي quot;خائنةquot; ومتواطئة في كل الأحوال، وهو اتهام يحلل الإطاحة بها، ومن منطق أن لم تقدر من الأصيل فما لك سوى البديل. وضمن هذه الحملة كان قد اتهم أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله، وفي سياق خطابه المتلفز الأخير مصر quot;بالخيانةquot; كونها كما يعتبر أغلقت عبر رفح ولم تمد يد العون للفلسطينيين، ونتعتها quot;بالكذبquot; على العالم العربي والإسلامي، كونها تدعي أن المعبر مفتوح في وقت هو مغلق. وانصباب غضب نصر الله على مصر بشكل عام دون تسمية رئيسها بالاسم هو هادف ومقصود، بمعنى أنه يوجه كلامه للمصريين، أي يتكلم مع الشعب المصري المتعاطف معه ومع القضية الفلسطينية، لتحميله مسؤولية تخاذله وتأخره عن الانتفاض على قيادته. وهي نصيحة كان أمين عام حزب الله قد أسداها للرتباء والضباط في الجيش المصري خلال خطبة سابقة.
وهذا التحفيز على الثورة يستهدف الحكم في مصر بشكل غير مباشر، لأن الفتنة المراد زرعها بين مختلف شرائح المجتمع المصري، أي بين المناصرين لفتح معبر رفح، وبين الموالين لقرار السلطة القاضي بإبقائه على حاله، سوف يؤدي إلى حروب أهلية في النهاية من الممكن معرفة أسباب نشوبها ولكن من الصعب تصور طريقة تطورها وانتهائها. خاصة وعود الثقاب هذا إذا رمي في الداخل المصري قد يلاقي أرضية خصبة ومهيأة ومشحونة بما فيه الكفاية. ناهيك عن تواجد أطراف باتت على أهبة الاستعداد لإذكائها، كالإخوان المسلمين على سبيل المثال، والذين أعلنوا مواقفهم الجديدة، وطبعاً استعدادهم ضمن هذه المواقف لمد يد العون لهذا المخطط عندما تدعو الحاجة.
فهل يتكرر السيناريو للمرة الثالثة ولو بإخراج مختلف في مصر؟ ونكون بعد حضورنا لنصرين الإلهيين سابقين، على مشارف حضور مسلسل نصر ثالث في مصر بنسخة معدلة، يتوجب في نهايتها على مصر أو quot;الوسيط الغير النزيهquot; على حد توصيف السيد حسن نصر الله لها، دفع ثمن هروبها إلى الأمام، ودية عدم وقوعها في فخ معبر رفح؟