في ظروف هي في غاية الصعوبة بعد أحداث غزة ، تتجاذبُ الفلسطينيون بمختلف منظماتهم القتالية الوطنية تيارات عربية عديدة لأقناعهم بالموافقة على أتفاق جديد لوقف أطلاق النار تتبناه مصر وتشترك فيه أيضاً الجامعة العربية و شخصيات عسكرية وسياسية وأعلامية.
وبقراءة مقالات وتصريحات جديدة لأمور عسكرية وسياسية (ذات طابع فني) تتعلق بالأراضي المحتلة التي تقع تحت السيطرة الأسرائيلية، يمتلكنا أحساس بالخيبة والألم لتفسيرات مفهوم أتفاق وقف أطلاق النار ، وهو مرحلة مزمنة أخرى مشابهة للأتفاقات الأخرى التي تُملي الأرادة الأسرائلية نتيجة المعرفة السطحية العامة للجانب العربي بشروط مثل هذه الأتفاقات وألتزامات العضوين المتنازعين والطرف الذي يُملي هذه الشروط تقليدياً . وقيمةُ هذا المقال هو المساهمة في أيضاح بعض الجوانب العامة لمواضيع قد تبدو مفهومة ولكنها في غاية التعقيد والغموض والنتائج . فكل طرف من أطراف النزاع له هدف تكتيكي مؤقت وهدف أستراتيجي بعيد الأمد عند القبول بالجلوس على طاولة المفاوضات . هناك مآسي سياسية وعسكرية تاريخية رافقت طريقة الفهم المتواضع لأمور في غاية التعقيد عند مقارنتها بالفهم الأوروبي والأمريكي الغربي . فأزدادت على ضوء ذلك الفهم ، نسب ومساحات الخسارة والفشل التي مرت بمصر والعراق ولبنان وسوريا وألأردن وضاعفت من الدمار الأقتصادي والمعاشي الذي لحق بأبنائها. ولأسباب لامجال لحصرها هنا، نلاحظ أن البعض منا لايريد أن يفهم حقيقة الوجود الاسرائيلي على أرض فلسطين . فأسرائيل دولة عنصرية عسكرية تبني منطلقاتها العقائدية على أساس القوة والتوسع ....أعني قوة الردع العسكري والعقيدة العدوانية للتمسك بالأرض والتوسع على مراحل . وشروط أتفاقيات وقف أطلاق النار تُملى على الطرف العربي وتحقق مصلحة أسرائيل قبل أن تحقق مصلحة أي طرف عربي . كما أن السلام يجب أن يتوافق مع مايمكن للعرب أن يقبلوا به بالطريقة التي تفرضها عليهم قوة أسرائيل وأمكانياتها العسكرية الضخمة ( هذا هو ماحصل مع الدول الموقعة على أتفاقيات السلام معها ) .
وتبجح المنظرون العسكريون من العرب( بغض النظر عن خلفياتهم وثقافاتهم ودوافعهم ) الذين أوصدوا باب فهم العقيدة العسكرية الأسرائلية وأهدافها يقدمون النصح لمنظمات المقاومة المشروعة للتخلي عن كفاحها المسلح ، لضعف قدرتها وعدم تمكنها من الألتحام في صف وطني واحد ومصارحتهم بأنه لايوجد عمق أرضي يوفر لهم النجاح ، مقارنةً ، بقوة الردع الأسرائيلية التي تتفوق بنوعية متطورة من السلاح المُدمر والذراع الطويلة لأستخدامه .

المفهوم الغربي والمفهوم العربي
وسأوجز نقطة واحدة تتعلق تحديداً بالمعنى الحقيقي:
1. لأتفاقيات وقف أطلاق النار وعلاقتها بنظرية الأمن والأعداد للمرحلة القادمة.
2. لأتفاقيات السلام وألحاقها بنظرية الأمن وأنهاء الاعمال العدائية المسلحة.
مع مافي الحرب من وحشية وأهوال ، فأن الدول وضعت لنفسها قوانين ووقعتْ على أسس عامة وأتفاقيات للتقيد والقبول بألتزامات تعكس تقاليد عريقة وأستثناءات أنسانية لمعايير وسلوك متعارف عليه عند نشوب الحرب، كما وضعت عقوبات دولية تفرضها ألأمم المتحدة بواسطة مجلس الأمن عند عدم التقييد بهذه الألتزامات أو تجاهلها أو الأستخفاف بها . وقبل الأسترسال ، لابد أن نفهم أن أسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم التي لا تلتزم بهذه المعايير أوتتقيد بها لأنها ليست سلاحاً موجهاً ضدها ، ونظراً لتأثير منظمات صهيونية ومكاتب حقوقية قانونية في عواصم الدول المهمة والدول التي لها مقاعد دائمية في مجلس الأمن بخدمتها .
أن أتفاقيات جنيف والمعاهدات الأكثر أقراراً في تاريخ العالم كانت قد قاومت الى اليوم أختبار الزمن. وهي تواجه العديد من التحديات من عالم متحضر ندّدَ بها وشجبها وأعتبرها أتفاقيات مبهمة وغامضة ، تُهددُ أستقرار العالم وخاصةً عند تفسير الدول الكبرى لها في مجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية .
والحقيقة أن الأنتقادات التي تَردُ بخصوص التفسيرات القانونية والمحاباة لدول معينة بدأتْ تتعقد وتتسع بعد قيام حروب عصابات تخوضها منظمات جهادية متطرفة مسلحة ، تعمل داخل أقليم الدولة ( كالصومال ، أفغانستان ، باكستان ، الفيلبين ونيجيريا والشيشان واليمن ومناطق أخرى ) وتستخدم أساليب قتال مختلفة لاتدخل في أطار الحرب النظامية التقليدية والمسؤولية القضائية لمعاهدات جنيف وتُخلف من الدمار مالاتطيقه الدول الغربية. وتتعمد وسائل الأعلام الأسرائلية وحلفاء أسرائيل بطرق مختلفة أضافة منظمات المقاومة المشروعة بأضفاء صفة الأرهاب والتطرف عليها وخداع العالم بأن أهدافها الدمار والتخريب .
مصطلح (وقف إطلاق النار) أستخدمته الحكومات الأسرائيلية المتعاقبة ليعني ان العمل العسكري حقق الغرض المطلوب منه لحين معاودة تجدد العمليات . وتقدمُ صِيغَهُ الشرعية على أساس أنه موجه ضد الأرهاب وليس المقاومة . ولأن المجتمع الدولي والغربي الأوربي منه يعترف بشرعية المقاومة ويناهض الأرهاب ، فأن تلويث سمعة المقاومة بأنها حركات أرهاب لا غير، تُسَوّق كبضاعة أعلامية للرأي العام وبمساعدة عربية أحياناً . والقراءة العربية لما يسمى بدول الأعتدال بدأت تميل الى تبني المفهوم الأسرائيلي بشقيه : وقف أطلاق النار ، وتسمية المقاومة على أنها حركة أرهاب وهي تُطلق بالتخصيص على (حركةحماس الفلسطينية وحزب الله اللبناني ) . والمؤسف حقاً ، أن المنظرين العرب أفقدتهم أسرائيل صوابهم لأنهم ، ولضرورات معينة أصبحوا مع الدول التي تمتلك عناصر القوة التكنولوجية والنظرة الأستعلائية العسكرية المتطرفة ودفنوا الملف الفلسطيني . فلحد الأمس القريب كانوا ينظّرون الفلسفة السياسية لتاريخ الأستعمار والهيمنة العسكرية وينورون جماهيرهم عن المستوطنات والتوسع وأراضي القدس المسروقة والجدار العنصري الذي بُنيت أجزاء منه بعد الأتفاقيات التي وقعتها أسرائيل في البيت ألأبيض مع الفلسطينيين. فما الذي تغيير ؟
وتكملةً ، فأن الأعداد لوقف أطلاق النار يختلف عن الأعداد لأنهاء الأعمال العدائية المسلحة والتمهيد لتوقيع أتفاقية سلام. وهو أمر أستماتَ زعماء أسرائيل لتحقيقه منذ الولادة العسيرة لدولة أسرائيل لحين مبادرة أنور السادات وزيارته المفاجئة لأسرائيل وتوقيع أول أتفاقية سلام رسمية وأعطت مصر بموجبها الأعتراف القانوني الأول وحلم أسرائيل الديني في أرض مُغتصبة .
وقف أطلاق النار هو هدف مرحلي سياسي وعسكري تفضله الدولة القوية التي قامت قبل بدء أطلاق النار وبدء العمليات العسكرية بتحليل قوة الخصم ووضعت الخطط لضربه بالطرق المُفضلة ، وقد تلحقه بأعمال عسكرية محدودة للأستيلاء على مناطق ذات أهمية أو تهيأة ظروف مناسبة لتطويرهجمات أخرى.ووقف أطلاق النار ليس فيه قوة الألزام ذات الطابع الدولي بغض النظر عن المسميات التي يجتهد منظرو الحروب بأعطائها ، كأصطلاح( معاهدة أو هدنة طويلة لوقف إطلاق النار بين الجانبين).
أجاب العميد الأسرائيلي كيورا أيلند على سؤال لمراسل جيروزيليم بوست عن عملية cast lead العسكرية في غزة . أين يعتبر نجاح لأسرائيل في العملية وأين يقع فشلها ؟ فأجاب : أن أهم نجاح حققته العملية هو ماأنجزته على المدى البعيد في الجنوب ( يعني بين غزة ومصر ). فقوة الردع الأسرائيلية أعادت الثقة لمواطنيها وتلقتْ حماس ضربة لشرعيتها غي غزة . وسيحتاج السكان في غزة الى المعونة الأقتصادية من الخارج وعلى حماس أن تقدم تعهداً الى مصر بعدم خرق أي أتفاق لأن ذلك سيجلب مشاكل بينهما ولدول أخرى) . والشيئ الذي أود أضافته هو أن قادة أسرائيل القدامى والجدد من يؤمنون بمبادئ القوة والردع العسكري ويهمهم أستخدامه في مجتمع عسكري كالمجتمع الأسرائيلي وأستخدامه أيضاً للنجاح في العمل السياسي والتسابق في الحصول على الشهرة وأِلا أغتالتهم القوى المُتطرفة كما تم أغتيال أسحق رابين لتوقيعه أتفاقية سلام مع ياسر عرفات .
أن العالم الغربي يفهم أسرائيل أكثر مما يفهم الدول العربية مجتمعة ، فمراكز الأعلام والدعاية المؤثرة على الرأي الحكومي والرأي العام العالمي ، لاترتجل القرار حين تقترب الى ضمير العالم ومخاطبته بأن (أسرئيل لها الحق بالدفاع عن نفسها ) وهي الحجة القانونية التي تستخدمها أسرائيل حتى لو أُطلق صاروخ واحد من صواريخ القسام الذي ليس له تأثير يُذكر . وماتصريح هليري كلنتن الجديد بأن لأسرائيل الحق بحماية مواطنيها المدنيين ضد أعمال ألأرهاب أِلا دليلاً يدخل في ذلك الأطار .
والقانون الدولي ليس واضحاً تماماً بالنسبة الى تجدد العمليات أو أستمرار الأشتباكات بشكل متقطع أوحوادث خرق بعد قبول الأطراف بوقف أطلاق النار أو حتى بوجود قوات دولية. والحقيقة أن تَجدد المناوشات قد يكون عملاً فردياً ولكنه في معظم الحالات عندما تبدء به القوات الأسرائيلية فهو أختبار ميداني وجس نبض الجانب الأخر وأستعداديته للقتال والتعرف على نوعية السلاح المستخدم واستطلاع مواقعه بأفتعال الحوادث للرد على تحصينات وأستطلاع قوتها والتعرف على قيمتها القتالية بأساليب الخداع العسكري وجمع المعلومات للقيادات الرئيسية الأعلى .
والعادة المتبعة المٌتفق عليها في الدول الغربية أن النصوص الوضعية لللقانون الدولي تخول للدول عدم الألتزام بوقف أطلاق النهار أذا كان الغرض هو حماية المدنيين من هجمات يقوم بها الخصم ( كهجمات صاروخية للقسام ...أطلاق نار على مستعمرة ) ، وتدخل ضمن المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة . ويتم التعليل بالرد وفق هذا المنظور.(1). ويأتي تصريح هليري كيلنتون وزيرة الخارجية الأمريكية تأكيداً لهذا الفهم .
وفي الحالات التي لايوجد فيها مراقبون دوليون لتسجيل من ينقض أتفاق وقف النار تكون المسألة هشة بالنسبة لتحديد المسؤولية والضررالمادي. أن الأشتباكات وما يُعرف بالعمليات العسكرية لاتنتهي بالموافقة الشكلية أو الرسمية المعلنة لأي طرف وقبوله بالشروط المُعلنة ، فقد تستجد ظروف وتظهر فرص تفرض على أي من الطرفين بأستئناف العمليات . هذا ماحصل بعد أتفاق وقف أطلاق النار بين الجانب المصري والأسرائيلي خلال حرب الأستنزاف من 1968 لحين أندلاع حرب تشرين أكتوبر 1973 وهو ماحصل على جبهات القتال السورية والأردنية والسورية واللبنانية ، وتماماً كما كان عليه الوضع القائم بين العراق والولايات المتحدة بعد التوقيع على وقف أطلاق النار في خيمة صفوان عام 1992 ، وهو ماسيحصل بأستمرارية مع منظمات العمل الفلسطينية مستقبلاً .
أن الدول الغربية العقيدة لاتتجاهل مبدأ من أهم مبادئ الحرب التقليدية أو الحرب غير النظامية بأتخاذ كل الجوانب الأحتياطية والتكاليف المالية والأعداد لما قد تجد نفسها فيه عند تغّيُر حالة طارئة ( وقف أطلاق النار) الى حالة طارئة أخرى( تجدد الأعمال الحربية) والشروع في شن عمليات عسكرية .
كما أن أنهاء الأعمال العدائية المسلحة تأتي (كنتيجة الاعتقاد) بأن التوقيع على أتفاق سلام دائم يدخل ويصب في مصلحة الدولة على المدى البعيد . والقتال هذه المرة ، يدور بين لجان سياسية وفنية وعسكرية متخصصة وتترأسها عادةً مجموعات قانونية تأخذ على عاتقها متابعة كتابة النصوص وتسليم نسخ منها للدول الموقعة والمنظمات الدولية ليكون الأتفاق مُلزماً للاطراف المتعاقدة . وهذا هو حال مصر مع أسرائيل اليوم على سبيل المثال.
وعندما ندع الوقائع تتكلم ونأخذ أمثلة من سجل تاريخي وبيانات مفصلة عن العقيدة العسكرية ومبدأ الحرب نجد أختلاف الأستنتاج والتفسير العربي عن الغربي في كيفية أتخاذ هذه الدول لقرارات مصيرية تتعلق بأرضها وسيادتها على أقليمها الوطني وحماية سكانها ومصالحها وكيفية الأعداد لها . وقد نصل أيضاً الى حقيقة أن الاستنتاج الغربي الذي يتوصل اليه قادة عسكريون وسياسيون عند موافقتهم على وقف أطلاق النار أو الدخول في أتفاقيات سلام دائم يختلف عن الأستنتاج والتفسير العربي له .
رغم الشجب والتنديد العربي والدولي على همجية السلوك الأسرائيلي بالهجوم على المفاعل النووي العراقي قرب بغداد عام 1982 والقصف الجوي اللا أنساني للمدنيين في غزة وأستخدام أسلحة ثقيلة ، وفي حالات سلاح محظور في مناطق مدنية ، فان القرار والتصرف الذي سلكته أسرائيل وستسلكه مستقبلاً مبني على تلك العقيدة. وأن العمل العسكري الذي ألتجأت اليه في حالة ضرب المفاعل النووي العراقي كان لحماية سكانها من خطر السلاح النووي. وأن الأجابة الدبلوماسية والقانونية في عدم وجود أتفاقيات سلام مُلزمة ، هي الحجة الأخرى التي تفي بالغرض في أروقة الأمم المتحدة مدعومة بمبدأ القوة.
أما كيفية النهوض من مستنقع الفشل العربي الى واقع النصر السياسي والعسكري وفهم مبادئ القوة ، فأن الأجابة ستحتاج الى مجلد من الأساسيات التي تُدرَس في الأكاديميات العسكرية وتدخل ضمن العقيدة العسكرية للدولة والتمسك بها . أما التبجح بفهم مبادئ عسكرية وفق أسس خاطئة وتعميم أخطائها فأن ذلك سيجلب المزيد من الفوضى والفشل .

ضياء الحكيم

[email protected]

الملاحظات :
1.Israel has a right to defend itself against terrorist attacks; US Secretary of State Hillary Clinton was quoted as saying Tuesday.