قرأت المقالة الرائعة للدكتورالفاضل عبد الجبار العبيدي المنشورة يوم 9 يناير 2009 فى ايلاف، وهي دعوة صادقة مخلصة لتوحيد المسلمين ونبذ الخلافات المفتعلة التى مزقتنا شر ممزق.
لا أظن أن علماء الدين الأعلام فى كل المذاهب يجهلون الحقائق التى سطرها الدكتور فى مقالته، ولكنهم لا حول لهم ولا قوة أمام التيارات الكاسحة من رجال الدين المزيفين الذين اتخذوا من الدين سبيلا للحصول على المال والسلطة. فانهم هم الذين يسيطرون على الشارع ويقودون الجهلاء أنى شاؤوا، وهؤلاء يتبعونهم على غير هدى.
ان ما يطلبه الدكتورالعبيدي من حوار مكشوف بين المذاهب والفرق الاسلامية، قد حاوله المأمون بن هرون الرشيد، فجمع رجال الدين من كل الطوائف، وبعد أيام طويلة من المناظرة والجدل ضاق ذرعا بهم وطردهم واعتنق مذهب المعتزلة. ومن بعد المأمون استمر الجدل بين الطوائف الى زمن المعتصم الذى جلد ابن حنبل بالسياط حتى أشرف على الهلاك. وكان المنصور قد حبس الامام أبى حنيفة ومات فى السجن (وقيل بعد خروجه من السجن). وقام المتوكل العباسي بالتنكيل بالشيعة وقتل منهم خلقا كثيرا. ومن هذا نستخلص أن الحوار لم يكن ممكنا، وكان أئمة الدين ما بين مساير للحاكم فيصيب الثراء، أو معارض له ومصيره الهلاك. أما عامة الناس الذين لا يفهمون الا النزر اليسير عن الدين والذين لا حول ولا قوة لهم من كل الطوائف فهم الضحايا على مر العصور.
لقد جربت اوروبا سابقا الحوار بين الطوائف المختلفة وفشلت، حتى أنه حصل ان كان هناك أكثر من بابا واحد فى نفس الوقت وكل منهما له أتباعه وأنصاره، وحصلت بين المتخاصمين معارك دامية لا تقل شراسة عن المعارك التى جرت بين الطوائف والفرق الاسلامية، وكان المنتصرون الوحيدون هم رجال الدين حيث كدسوا الأموال والثروات المذهلة دفعها لهم الفقراء عن طيبة خاطر ممنين أنفسهم بحياة اخرى أبدية مرفهة تعوضهم عن الفقر المدقع والتعاسة التى عاشوها فى هذه الدنيا.
وكما فشل الحوار فى اوروبا فسيفشل هنا أيضا. وسبب الفشل واضح، فان لكل فرقة - دينية أو مذهبية - سواء أكانت مسيحية أو مسلمة او يهودية او غيرها- لها قادتها الذين يذودون عنها ويدعون الى مبادئها لأسباب مادية فقط لا علاقة لها بالعقيدة. ولكل قائد أعوان وأتباع اتخذوا من الدين مهنة سهلة ومربحة، يمد أحدهم يده اليمنى للناس ليقبلونها ويمد يده اليسرى ليسلبهم أموالهم.
فى منتصف الستينات كنت فى سفرة سياحية لمنطقة (تيفولى) بالقرب من روما، وهي منطقة رائعة وجمالها لا يمكن وصفه. فقد تعاونت يد الانسان مع الطبيعة فى تكوينها فصاغت منها سحرا يأخذ بالألباب. الشلالات ونافورات الماء من كل الأنواع والأشكال قد جلبت الماء بصورة طبيعية وبدون مضخات من الجبال بأنابيب، وأصوات خريرالماء يشنف الآذان ويريح النفوس والأبدان. ويطل على كل ذلك قصر منيف، قام بتشييده الفقراء من العملة والفلاحين الذين يسكنون أكواخا وبيوتا صغيرة، شيدوها ل(كاردينال) كان فى حياته يعدهم بجنات النعيم، ويطوف عليهم رافعا ذراعيه يدعوا لهم أن لا يذوقوا عذاب الجحيم. وهم يتبركون بلمس ردائه وتقبيل نعاله ويتدافعون للحصول على نظرة مباركة منه. وعندما مات الكاردينال كان يعاني من مرض النقرس (داء الملوك) الذى يتسبب من الافراط بتناول اللحوم الحمراء، والتى لم يكن بامكان الفقراء أن يشتروها.
بسبب الثراء الفاحش الذى أصابه رجال الدين فى اوروبا فى القرون الوسطى، فقد اشتدت سواعدهم وأخذوا يتدخلون فى شؤون الحكومات الى درجة أن القوانين كانت تحتاج الى موافقتهم قبل اقرارها. وكان الملوك يخشونهم فيسعون الى ارضائهم ويغدقون عليهم الأموال من الضرائب التعسفية على الفقراء، ويشترون منهم صكوك الغفران ليدخلوا الجنة.
وفى ذلك الزمن كما هو عليه الآن، فان الجهلة والفقراء هم من أكثر الناس تمسكا بالدين. وبمقارنة بسيطة بين شعب السويد فى شمال اوروبا مع شعب بنغلاديش شرق القارة الهندية، سنجد أن نسبة المتدينين فى السويد واطئة جدا بينما ترتفع كثيرا فى بنغلاديش. وما ينطبق على بنغلاديش ينطبق على البلدان الأخرى التى تخلفت عن البلاد المتقدمة.
وجد الغربيون أن فصل الدين عن الدولة هو الحل الأمثل لأزماتهم ومشاكلهم، ففعلوا ذلك، ولم يكن الأمر سهلا، ولكنهم استطاعوا ايقاف رجال الدين عند حدهم ولم يعودوا يسمحون لهم بالتدخل فى الشؤون السياسية والعسكرية وغيرها من الأمور التى لا علاقة لها بالدين. وبدأت سيطرة الكنيسة بالتقلص فى نهاية القرون الوسطى وبداية القرن السادس عشر. وبدأت الدول الأوروبية التقدم بخطوات حثيثة فى كل المجالات، وبقيت الدول الشرقية (المتدينة) تراوح فى مكانها متخلفة فى كل شيء، ولا يشغلها الا الحديث عن السلف الصالح والمجد الغابر التليد.
عندما أتحدث عن رجال الدين فانى لا أقصد رجال الدين الحقيقيين الذين أكن لهم بالغ التقدير والاحترام، فهم مغلوبون على أمرهم ولا يقولون شيئا ولا يفعلون شيئا الا ويأخذون فيه رأي الشارع الذى يقوده رجال الدين المزيفين. وأتذكر أن الراحل الشيخ الخالصي الكبير قال مرة فى احدى خطبه الدينية فى الكاظمية فى نهاية الأربعينات من القرن الماضي بأن قول (أشهد أن عليا ولي الله) أثناء التكبير ليس واجبا ولم يكن موجودا فى الاذان أصلا فى زمن الرسول (ص)، فكادوا أن يقتلونه واضطروه الى التزام الصمت.
وحاول علماء أفاضل آخرون النهي عن التطبير واللطم فى ذكرى استشهاد الامام الحسين بن علي بن ابى طالب (ع) ولم يفلحوا، وسمعت يوما أحدهم يقول بصوت أشبه بالهمس فى حضور بضعة أشخاص بأن من يجرح نفسه متعمدا لأي سبب من الأسباب ويموت بسبب ذلك الجرح سيكون مصيره مصير من يقتل نفسه، فيدخل النار.
خطورة المتدينين المتشددين تكمن فى حبهم للموت وما يتبعه من خلود فى جنات النعيم والحصول على ما حرموا منه فى هذه الدنيا، فيسهل على رجال الدين المزيفين أن يقنعوهم بتفجير أنفسهم بين الناس، وغير ذلك من الأعمال الاجرامية التى عانى منها شعب العراق الكثير.

لا توجد مهنة أسهل من مهنة رجل الدين المزيف، فهو لايحتاج أن يقرأ الكثير، أو يبحث طويلا بين كتب الأولين والآخرين، ولا يحتاج الى قوة عضلية، وكل ما يحتاجه هو ان ان تكون له لحية طويلة (فى الغالب) ويكون ذلق اللسان جهوري الصوت، وقد يحمل مسبحة، ويبطىء فى مشيته، ويتكلف ابتسامة غامضة، وينظر الى الأرض ولا يحدق فى وجوه الحاضرين الا قليلا، ويردد كلمات يندر استعمالها بين العامة ليكسب اعجابهم، وغالبا ما تجده يبسمل ويحوقل ويكثر من ذكر الله وحمده ويذكر رسوله ويصلى عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه الخ...
اننى لا أطلب من الناس التخلى عن أديانهم ومعتقداتهم، فهي من الأمور الخاصة، وبين الخالق والمخلوق، ولكن فصل الدين عن السياسة سيفيد الدين والسياسة، وينتفع البلد ويرفع من مستوى المواطنين فى كل المجالات، ويحفظ لهم أمنهم وسلامتهم.