النظام الكوني الذي يدل على مهارة الصانع ودقة الصنعة قد ذكر مفصلاً في القرآن الكريم وبمختلف الإتجاهات والطرق التي تم التعبير فيها عن حقائق الكون، ودون الولوج إلى التفاصيل التي تقرر ما أشرنا إليه نجد ذلك سارب في أسماء السور التي تكون القرآن الكريم، حيث أن دلالاتها تغطي كل الوجود المشاهد وصولاً إلى الأعراض أو ما يختلج النفس من أوهام ومشاعر.
كل هذا تجسد تحت التغطية المتمثلة بأسماء السور سواء كانت توقيفية أو إصطلاحية. فإن قيل: إذا كانت أسماء السور إصطلاحية ألا يتنافى هذا مع الطرح الذي قدمت؟ أقول: لا يتنافى مع ما قدمت إذا جعلنا الطرح يمهد لأضعف الوجوه التي بنيت عليها مادة السور القرآنية فضلاً عن التوسع.
وهذا ما جعل بعض المفسرين يذهب إلى أن الحروف المقطعة هي أسماء للسور، إلا أن هذا المذهب يقرر التأرجح بين التوقيف والإصطلاح من جهة ومن جهة أخرى يثبت التوازن والتكامل المستفاد من الأسماء التي يراعى فيها التقابل الذي نجده في متفرقات القرآن الكريم.
وهذا التقابل تقرره الأسماء نفسها كما هو الحال بين سورتي المؤمنون والكافرون والجن والناس والشمس والقمر........إلخ، فإن قيل: القرآن الكريم يقابل الجن بالإنس وهذا مستطرد؟ أقول: ما تشير إليه أسماء السور لا يقتضي الملكات الناطقة ولذلك جعل الناس مقابل الجنة عدولاً عن الجن الذي يستقيم المعنى فيه أيضاً بغير القرآن، كما هو الحال في عدوله عن التلاوة إلى الذكر في قوله: (فالتاليات ذكراً) الصافات 3. وهذا ظاهر في سياق الآيات التي أضافت الصف للصافات والزجر للزاجرات، أما في التاليات فقد عدل القرآن كما أشرت إلى الذكر لرفع الوهم الحاصل في المعنى المقرر للسير اللاحق فتأمل.
والقرآن الكريم يراعي إزالة اللبس في جميع حركاته وسكناته التي يحسبها البعض زيادة على الأصل كما في قوله: (فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة........الآية) البقرة 196. وكما هو ظاهر في الآية الكريمة فإن الناتج هو تحصيل حاصل إلا أن القرآن الكريم أتى به لإزالة اللبس حيث أن الواو كثيراً ما تأتي بمعنى [أو] فيكون التوهم أن الصيام مرخص فيه بين ثلاثة أيام في الحج أو سبعة عند الرجوع إلا أن الجمع الذي ورد في قوله تعالى: [تلك عشرة كاملة] أزال هذا الشك.
فإن قيل: وهل جاء الواو بمعنى أو؟ أقول: نعم وذلك في قوله تعالى: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع) النساء 3. فالواو هنا بمعنى [أو] والتخيير ظاهر في قوله: (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا) النساء 3. وقد يأتي [أو] بمعنى الواو كما في قوله: (فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً) الإنسان 24. والمعنى ظاهر في أن الطاعة التي نهى عنها تعالى للإثنين دون التخيير بينهما. وهذا كقوله: (أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس.....الآية) يونس 24. وهذا كثير في القرآن الكريم.
ومن هنا نجد أن التكامل يبين لنا حقيقة المقابلة بين الحروف المقطعة التي إفتتح تعالى فيها بعض السور وبين السور الأخرى التي بينت أطوار النظام الكوني في إفتتاحها ليضاف هذا الرصيد إلى التكامل المتقابل في القرآن الكريم وبغض النظر عن الآراء التقليدية نكون قد وصلنا إلى أن الفائدة التي حصلنا عليها من تلك الحروف تكمن في التحدي المستخلص من الكتاب الكوني وصولاً إلى الكتاب المقروء. علماً أن هذه الحروف ليس بدعاً في التراث العربي فقد إستعملها العرب في نثرهم وشعرهم حيث أن طباعهم تميل إلى الإيجاز والإختصار في التعبير عن مقاصدهم وقد نسب إلى الوليد بن عقبة قوله:
قلت لها قفي فقالت قاف......لاتحسبينا قد نسينا الإيجاف
وقاف يعني وقفت، وقال آخر:
نادوهم ألا ألجموا ألا تا......قالوا جميعاً كلهم ألا فا
وهنا أراد: ألا تركبون، قالوا: ألا فاركبوا، وقال زهير:
بالخير خيرات وإن شراً فشر......ولا أريد الشر إلا أن تا
وأراد هنا وإن شراً فشر إلا أن تشاء.
ونجد أن الحروف ظاهرة في قصيدة لإمرء القيس والتي يقول فيها:
تعلق قلبي طفلة عربية......تنعم في الديباج والحلي والحلل
لها مقلة لو أنها نظرت بها......إلى راهب قد صام لله وابتهل
لأصبح مفتوناً معنىً بحبها......كأن لم يصم لله يوماً ولم يصل
حجازية العينين مكية الحشى......عراقية الأطراف رومية الكفل
تهامية الأبدان عبسية اللمى......خزاعية الأسنان درية القبل
ولاعبتها الشطرنج خيلي ترادفت......ورخي عليها دار بالشاه بالعجل
وقد كان لعبي كل دست بقبلة......أقبل ثغراً كالهلال إذا أهل
فقبلتها تسعاً وتسعين قبلة......وواحدة أخرى وكنت على عجل
وعانقتها حتى تقطع عقدها......وحتى لآلئ العقد من جيدها إنفصل
كأن لآلئ العقد لما تناثرت......ضياء مصابيح تطايرن من شعل
أما ماذكره للحروف فقد جاء في قوله:
فكم كم وكم كم ثم كم كم وكم وكم......قطعت الفيافي والمهامة لم أمل
وكاف وكفكاف وكفي بكفها......وكافي كفوف الماء من كفها إنهمل
هذا ويستمر في ذكر كثير من الحروف على هذه الطريقة علماً أن هناك بعض الأبيات التي لا تتناسب مع نوعية المقال لذا أعرضنا عنها.
ولما كانت الحروف المقطعة مستعملة في أشعارهم وخطبهم كان لابد للقرآن الكريم أن يتحداهم بما ألفوه في لسانهم وكأنه يقول إن اللغة التي تتكلمون بها مكونة من نفس الحروف التي نزل بها القرآن الكريم، فهلا إستطعتم مجاراته والمجيء بمثله أو بحديث مثله على أقل تقدير، لأن اللغة لا يحيط بمقاصدها إلا من كان يمتلك سعة الفهم بها ومن هنا نعلم أن أساتذة البلاغة وفصحاء اللسان كان لديهم علم اليقين أن هذا الكتاب هو من عند الله تعالى لذا أستأثروا الصمت دون المحاولة أو بذل الجهد في أن يأتوا ولو بسورة واحدة من مثله.
ولايمكن أن يكون صمتهم هذا ناتجاً عن الصرفة كما يدعي البعض علماً أن التحدي لايزال قائماً إلى اليوم وصدق تعالى حيث يقول: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً) الإسراء 88.
عبدالله بدر إسكندر المالكي
[email protected]
التعليقات