يتوالى القصف الإعلامي المـركـّز، والهجوم الحاد، ومنذ فترة ليست بقصيرة، وعلى طرفي الخليج الفارسي بشأن اتهامات متبادلة عن اضطهاد لسنة إيران في الجمهورية الإسلامية التي يقول خصومها، بأنها لا تسمح للأقلية السنيـّة بالتعبد وفق مذهبها الخاص بحيث ينسحب هذا المنع حتى على الاعتراض على بناء جامع واحد للسنة. كما يتم الحديث باستفاضة ووفق الطقوس الكربلائية اللطمية البكائية الشيعية المعتادة إياها، عن اضطهاد وتمييز وتفرقة ضد شيعة الخليج المتواجدين تاريخياً في الخليج الفارسي، أي هم عرب أقحاح لا صفويين ولا فارسيين.
وتتناول الاتهامات عدم الاعتراف بأي من حقوق الجانبين اللدودين وبأن ليس لأي منهم أي تمثيل معتبر في المفاصل الحساسة والحكومية، وعدم قدرتهم على ممارسة شعائرهم الدينية واحتفالاتهم الخاصة بحرية تامة، وكل يحمـّل الآخر نفس الممارسات والشناعات التي تطال الأقليات في طرفي الصراع. وهذا ما يمهد، تالياً، لعمليات تدخل مباشرة، وغير مباشرة، ربما، من قبل هذا الطرف أو ذاك، في الشؤون الداخلية للآخر، ناهيكم عن تصريحات استفزازية من وقت لآخر تطال أيضاً فيما تطال سيادة هذا البلد أو ذاك. وكان آخرها تصريحات بعض البرلمانيين الإيرانين بشأن تبعية مملكة البحرين لإيران، والتي لاقت موجة عارمة من الاستنكار، وعلى غير صعيد، فيما تبرأت إيران الرسمية منها، وعزتها إلى مصادر غير رسمية أو مسؤولة. وقد طالت تصريحات مشابهة في وقت سابق دولة الكويت أيضاً، وإن لم تكن بذات القوة والاستفزاز. وتأتي أحياناً، وبضوء أخضر من هنا وهناك، في محاولات الهيمنة والاستئثار التي يقوم بها كل فريق، واستخدام هذه الورقة الطائفية لزعزعة الاستقرار في كلا الطرفين، أو حتى لاستحداث ذاك القدر الكافي من الاستفزاز والخلخلة في المواقف الجامدة، تمهيداً ربما للدخول في عملية دبلوماسية ما بعد هدوء الجبهات الإعلامية وتوقف القصف الكلامي.
وفي الحقيقة لا يمكن فصل هذه المماحكات، والمناكفات، وحتى بشكلها اللفظوي الصاخب، حتى الآن، عن الشرط السياسي والثقافي السائد في هذه المنطقة، ككل وتجاذبته المعروفة. وإن محاولة نزعها من سياقها الثقافوي والتكويني، هو لعمري، محاولة لإخفاء حقيقة وطبيعة هذا الوضع المهين للجميع والتعمية عليه. غير أن ذاك الوضع- وضع الأقليات- على ضفتي الخليج لا يمكن فصله بحال عن الثقافة والموروث السلطوي السائد في المنطقة، والذي لا يعترف في الحقيقة بأي نوع من الحقوق لأية أقليات، وتهيمن على الثقافتين والشارعين تلك الثقافة الشمولية الأحادية التي تنظراً شزراً ودونية لأي اختلاف وتباين في الرأي والمعتقد، وتكفره، وهنا يكمن لب المشكلة. إنها إذن مشكلة ثقافة وتكوين معرفي متراكم وممنهج وعبر مئات السنين حتى وصل إلى تلك الحالة من العدائية المستفحلة والمستعصية بين المكونات المجتمعية الواحدة. وللتدليل على ذلك فإن الأمر لا يقف هنا وعند هذا الحدود، فيمكن أن ينسحب هذا الكلام أيضاً على أقباط مصر، ودارفور السودان ونوبييه، وأمازيغ المغرب quot;العربيquot;، وأكراد المشرق quot;العربيquot; أيضاً، وطوائفه وأعراقه المختلفة الكثيرة التي خلفتهم الحضارات والمجتمعات السابقة قبل أن تكتسحهم الثقافة البدوية أحادية الرؤية والتكوين، هذه، والتي لا تعترف بأي شكل ممن التباين والتعددية وتعتبرها جاهلية، وخروجاً عن الجماعة وثقافة القطيع، في مصفوفة نظامها الخطابي القدسي. فالقضية كما يبدو ليست قضية سنة مضطهدين، ولا شيعة مهمشين، أو أقليات محرومة، بل قضية ممارسة إقصائية دخلت حيز المقدس في بعض الأحايين. وعندما يفسح المجال لأي كان، بممارسة قدر من التسلط، فلا يمكن التمييز عندها بين هوية إثنية، وعرقية، وطائفية وأخرى، ولا هوية لطوابير الجلادين.
والذين يرددون مثل هذا الكلام، - الاضطهاد- يمارسون في الواقع قدراً من تزييف الوعي الكبير والالتفاف على كافة حقائق ووقائع الإقليم الثقافو-سياسي والسلطوي. فالكلام عن اضطهاد لسنة إيران، وشيعة الخليج، يفترض تلقائياً، وبالمقابل، أو يوحي، هكذا، بأن سنة الخليج في مشيخات الخليج الفارسي، أوشيعة الخليج في إيران، يتمتعون بقدر كاف من quot;الرفاهيةquot; السياسية والاحترام لحقوقهم ويعيشون على ما يرام من شروط حياتية راقية لا يقترب منها أي نوع من النقد أو التجريح، وتطبق عليهم مواثيق حقوق الإنسان حرفياً، والقلم والمسطرة، وهذا الكلام غير صحيح، أو دقيق، بالمطلق، وعار عن الصحة. فالجميع يدرك ما تعانيه كافة المكونات المجتمعية بما فيها المرأة، في المنظومة الشرق أوسطية الاستبدادية من عسف وجور وقمع وتنكيل وبغض النظر عن انتمائها الطائفي أو العرقي.
وبرأينا المتواضع جداً، فالجميع، وفي ظلال ثقافات اللاتسامح واللاعتراف واللامفاوضات، مضطهد دونما استثناء والحال quot;من بعضوquot; في جميع عواصم الفقر والقهر والعهر. ولن ينجو أحد من عواقب استخدامات العامل الديني وتوظيفه من وقت لآخر لهذا الهدف السياسي، أو لصالح هذا الوكيل الإقليمي أو ذاك. وما لم يطرأ تحولات بنيوية في جوهر هذه الثقافة، فالظلم والعسف والاضطهاد والتمييز هو العامل quot;العادلquot; المشترك الوحيد الذي يخضع له، ويعيش بكنفه، الجميع.
نضال نعيسة
[email protected]
التعليقات