لايعارض أي أنسان سليم العقل المشاركة العراقية الواسعة لعملية المصالحة الوطنية التي يتم وفقها بالفعل والعمل نبذ السلاح وأنهاء حالة عدم الأستقرار. كما لايوجد أي مواطن مُحب لشعبه يرغب في رؤية الجرح العراقي يُستنزّف من جديد.
أِلا أننا نبحث عن مقومات النجاح المقبولة لعملية المصالحة التي تَقبل بها وتَستسيغها القطاعات المدنية العامة والخاصة المُكونة للمجتمع العراقي بشتى مصالحه وأعماله وتشمل قطاعات منتسبو القوات المسلحة والشرطة والأمن والطلبة والعمال والفلاحين. و ينتابني الشك كلما أحاول أن أفهم مسالك الطرق العديدة المقترحة لعملية ترقيع المصالحة الوطنية العراقية. مَنْ هم المُمثِلون وماذا يُمثلون وأسئلة أخرى تُحدد نوع وقيمة المصالحة.
ويمتلك بعض المُصلِحين العراقيين الجرأة في عرض شروط وسُبل المصالحة وهم يجلسون في القاهرة وعواصم دول عربية أخرى، ويستغلون بألأموال المُخصصة للزكاة والأعمال الخيرية، أفواج الشباب ودفعهم للموت والتضحية في أرض العراق ويخطون لأنفسهم منهجاً يخدم أسرائيل عن وعي وأدراك وأغراض مُبيتة آخرى. دول عربية أسيوية وأفريقية لها أمتن العلاقات العسكرية والمؤسسات المالية مع الولايات المتحدة، تأوي وتُمكّن قوى شريرة لجأت أليها بعد أن خسرت أعتبارها الوطني ولكنها مُصرة على تخريب العراق بأدعائها محاربة الوجود الأمريكي والحكومة العراقية التي تسعى الى تمتين العلاقات وتنميتها مع الأدارة الأمريكية. والشيئ المذهل والمُحير للعملية المقترحة للمصالحة (الذي يضعني في موضع التناقض والأحراج أحياناً) أنها مُحبذة من الجميع ومرفوضة من الجميع، حسب المزاج والوقت والزمان ولوي الأذرع وما في الأمكان قطف ثماره عن طرق الأبتزاز والتظاهر بالوطنية. فما دامت بوابة الأرهاب مفتوحة لهم بشكل متواز مع بوابة المفاوضات الوطنية فالأمر مُحبذ لهم، وعندما تُسد الأبواب بوجه الفئات الاجرامية يلجأون الى الخلايا وتوجيهها بأوامر زيادة أعمال العنف والتخريب.
وكمبدأ نتمسك به، نسأل أنفسنا والأخرين : كيف يمكننا أن نرى أطراف مُجرمة مازالت تخزن حنانها للنظام الاستبدادي الأجرامي السابق تدخل أرض الحوار والمشاركة السياسية بوجود مادة دستورية تحظر التعامل مع قوى تخريبية؟ كيف تُفتَح أذرع الترحيب للحوار الأيجابي المخلص للذين يحملون على أذرعهم وأكتافهم أسلحة الموت لشعبنا؟
ولاأرى أن العراقيين يفضلون طغيان الأحزاب الدينية والقومية المتطرفة في مفاوضات المصالحة الوطنية. ففي الوقت الذي نحرصُ فيه كالأخرين أن يكون للأسلاميين والعشائر العربية والكردية دور وصوت مميز يتمسك فيه الجميع بالقيم الوطنية والحضارية للمجتمع العراقي نرى أن يكون للدولة دلالة وهدف واضح للعيان عند الجلوس على بساط واحد يَجمع قوى العراق المُوحد للخروج من الأزمة والتأكد من عدم حدوث عثرات أخرى. أن العراق لايستطيع أن يتحمل أجرام وتخريب أولائك الذين مازالوا يهددون من الخارج بأرسال الشباب تحت راية الجهاد، وأني أجد قيمة معنوية جيدة في وصف هذه النوعية المُبتذلة التي لاتفهم غير لغة النار وسبق وأن تنصلتْ عن أولى مبادئ الدين الأسلامي الحنيف وصفها بقلة معرفة قوله تعالى ( وأعتصموا بحبل الله جميعاً ولاتفرقوا ) في عقيدة التوحيد والتسامح.
المصالحة العراقية...مَنْ ومتى وكيف؟
لايوجد في العالم اليوم نظام حكم متمدن يوفر الأرضية للمصالحة والمفاوضة مع قوى عدائية تهدف الى الفتك به وتعتمد مناهجها النظرية والفكرية والتطبيقية على مصادرة الحريات المدنية والدينية ولا يمكنها أن تتوب وتستغفر من شرور وسيئات أعمالها. نظرة متفحصة واحدة لأحداث القتل الأخيرة في الحبانية وكركوك وتفجير سبع سيارات داخل العاصمة بغداد توضح أن هذه الزمر تعودتْ على طريقة الغدر بالعراقيين وأرهابهم. وللأمراض الفكرية التي تدور في رؤوسها فأنها تُخّون الجندي والشرطي ورجل الأمن وتشكك بأبناء البلاد وتغدر بهم بطريقتها الخاصة.
ونتسائل أيضاً أِنْ كانت نية الحكومة دعوة مِثلِ هؤلاء، المُلاحَقون قانونياً لجرائم جنائية ضد الدولة والجلوس معهم تحت راية المصالحة الوطنية؟ وهل هناك عراقي عفيف الأرادة يمكنه الجلوس تحت خيمة واحدة مع فصائل مجرمة لاتفهم غير لغة الأغتيالات السياسية ولاتهدأ لها سكينة أِلا على كثرة الرقاب المُقطعة، والحكم عن طريق الأنقلابات العسكرية رغم أرادة الأغلبية العراقية؟ هل هناك نية الجلوس مع حملة سلاح التخريب والغدر من التيارات الأسلامية الشيعية أو السنية التي تستمد قوتها من الخارج وولائها المُحدِّد لدوافعها هو لمن يدفع مالاً أكثر لتنفيذ مأربه؟
ليس سراً صعوبة ألالتقاء بهذه الأطراف لعدم صفاء نياتها. والمطلعون بالشأن العراقي والمهتمون بتفاصيل اللقاءات الجانبية التي تجري بين القوى السياسية المختلفة يؤكدون (وكما رأينا في العديد من المرات ) بأن توجهات بعض هذه الأطراف وهمُها الأول والأخير هو أضعاف سلطة الحكومة وتوجيه أختياراتها عن طريق ألأخلال بالأمن وخلق موجة عارمة جديدة من االأرهاب والتحفز لأسقاط النظام في الوقت المناسب. ويُلاحظ أيضاً من المعلومات المتوفرة، أدخال هذه الزمر لأجندات عمل بطرق ملتوية وغريبة (خارجية المنشأ )، بالأضافة الى شروط هدفها فرض تغيير الخارطة السياسية للعراق، و يَغلِبُ على مقترحاتها المُقدمة، كل ما حاول قادة العراق تغييره منذ عهد الأستقلال للتخلص من الأيدي الخارجية للأستعمار الى يوم أزالة الأستبداد السياسي وعهد الدكتاتورية. وكلما قامت الحكومة المركزية بفتح بوابة المصالحة والمفاوضات تعود نغمة الأبتزاز القديمة المُدعمة بالأرهاب الفكري والأرهاب المسلح.
والحقيقة المُرة هي أن مجموعات عراقية عديدة توارثت عقلية النظام القديم في البطش بمن يقف في طريقها ولايهمها في ذلك مصلحة العراق أو شعبه وتتمادي في تمزيقه كما فعلتْ في مسلسل الأرهاب والتخريب في الأعوام الماضية القريبة. لقد أعرب بعض قادة هذه الخلايا السيئة الصيت عن تأييدها السري و العلني، لؤدِ العملية السياسية الحالية والأطاحة برغبات وطموحات الشعب الوطنية، وبدأت من جديد في زرع خلافات بين طائفة وأخرى بطرق بدائية وأفكار خبيثة متطرفة تعوّدَتْ عليها في تنظيمات العمل السياسي السري منذ الستينات من القرن الماضي.
الأطراف السياسية في العراق؟
لا نتوقع من الأطراف الوطني التي يهمها و يخصها أمر أستقرار العراق، الاتفاق مائة بالمائة على كل شاردة وواردة والتخلص من التطرف واللجوء الى طريق النقد والنقاش والحكمة السياسية في حالات الأختلاف للوصول الى أتفاق وطني يخدم البلاد. فهناك صعوبة في أمتصاص ثقافة العنف والأنتقام التي كانت خصلة من خصال النظام السابق ودفعت بالكثير من مناصريه بعد سقوط ذلك النظام الى المعارضة المُسلحة وحمل السلاح وتسخيرالأطفال والشباب في أعمال أجرامية لغرض الأبتزاز السياسي. وأعاد المناصرون الأخرون منهم النظر في وجودهم في العراق وتركوا خدمة بلدهم وعرضوا خدماتهم لدول محيطة بالعراق. فالماضي القريب أثبتَ أن الخلاف مع هذه القوى لايعني اِلا الأستمرار في سفك الدماء وأهدار الكرامة.
في معارضتها للفدرالية للعراق، تقع أطراف أخرى في موقع عدم الوعي لمفهوم الفيدرالية الذي لا يتعارض مع وحدة العراق ووحدة أراضيه أطلاقاً ولايعني تقسيم العراق الى كيانات قومية أو مذهبية متنافسة. أن معظم الأطراف السياسية المُشاركة في السلطة تفهم المغزى الحقيقي لِما يعنيه التقليل من الحكم المركزي المطلق ( قبضة الحكومة ) وتمتين الشعور الوطني وتعزيز ثقة المواطنين بمناطقهم وأرضهم وأستقلاليتهم وشعورهم بالأنتماء. كما أن الحكومة المركزية تفهم أهمية تمتين الشعور الوطني بأعطاء المناطق الفدرالية التي أقرها الدستور الحرية الأدارية والحوافز المادية والخدمية للعناية بالمواطنين وأغناء ثقافتهم ورفاهيتهم في المناطق التي تقع ضمن مسؤولياتهم.
أما بخصوص الفصائل السياسية التي لاتفهم غير لغة الأغتيالات السياسية في رؤيتها لعراق المستقبل فقد أشتقت لنفسها طرق قتل أخوتهم وأهاليهم. فماذا سيجني العراق من مشاركتها؟ وكيف يمكن أعتبارها أطراف وطنية مُشارِكة في العمل السياسي؟ الكل يعرف عدم أستطاعة هذه الزمر تنقية نواياها الأجرامية المُبيتة؟ فالعراقيون من السنة والشيعة والأكراد والتركمان والمسيحيين بطوائفهم ومن يمثّلهم في مجلس النواب يجب أَلا يُسمحوا لمشاركة قوى أجرامية في الحوار والتفاوض والمشاركة بمنحهم الثقة المُطلقة، ولايمكن بأي حال من الأحوال أدخالها في مشروع المصالحة الوطنية بعد ثبوت تواطئها واستعانتها بزمر إرهابية غير عراقية أصلاً، تأتمر بها و تتعاطف معها سياسياً، تمويلياً وتسليحياً. أن التفريق مابين الفصائل الوطنية وأحقيتها في ممارسة العمل السياسي والأخرى القائمة على التسول السياسي وشعارات شهر السلاح، هو مبدأ في غاية الضرورة وينبغي أن يتم على أساس المصلحة القائمة في التضامن مع شرعية الحكومة وحرصها على معالجة الأزمات العراقية في إطارها العراقي وألاخذ بالأعتبار مصالح الرعية وسلامة أمن الدولة.
الخلاف الشيعي الشيعي والسني السني في العراق
وبعد التجربة المريرة التي خاضها الكثير منا أجد نفسي متفقاً تماماً مع أغلبية الأراء التي ترى أن الخلافات الطائفية لا تتعلق بمبادئ الدين الثابتة بقدر ماتتعلق بمصالح أنية أنانية، فالخلاف الشيعي الشيعي والسني السني هو في جوهره يتعلق بمن الأصلح في قيادة المسلمين روحياً. و الخلاف الطائفي (الشيعي السني) المُعلن للملأ هو في حقيقته خلاف سياسي تاريخي لحدث أسلامي يتعلق بمن يُمكنَهُ صياغة شكل الدولة ونوع نظام الحكم السياسي المطلوب للمجتمع. ووجدنا أن الأخطاء السابقة للمصالحة العراقية المقترحة من دول عربية لم تكن في حقيقتها أِلا محاولات دؤوبة غرضها ترقيع العمل السياسي الوطني العراقي وأدخال مشاريع مُحاصصة مذهبية كان قد تمَّ رفضها من الأوساط السياسية المثقفة التي يهمها العراق كدولة ديقراطية متحضرة أولاً.
ومثقفوا العراق من الرجال والنساء وطبقات الأوساط السياسية الشعبية يتسألون عن أهمية جلوس وسطاء مُصلحين من العرب والعجم في مفاوضات صلح عراقية - عراقية، وأهمية أرائهم وأغراءات الوثوق بهم. فمصر مثلاً ( وهي تأوي العديد من القوى السياسية العراقية المناهظة للحكومة العراقية الحالية ) تقاد بمركبة السياسة الأمريكية في المنطقة منذ 1972 وتتلاعب بالقيّم الوطنية العربية على ضوء مصلحتها. صحيح أن العراق مازال يمر بالعديد من الصعاب والاخطار والتحديات التي قد تتعدى طاقته وأمكانياته العسكرية والمادية، ولكن وجود الوسيط العربي، الجامعة العربية أو المُصلح الأجنبي الأمريكي ماهو أِلا بيع لأرادة المواطنين العراقيين ومن يمثّلهم في أرضهم، كما أنه لا يعني حلَّ حقيقي لأزماتنا الداخلية.
العراق المثقل بتداعيات الحرب والخراب والديون، كان قد طلبَ من العرب مراراً مساعدته في وقف دخول المتسللين والأسلحة الى أراضيه كما ترجى منهم أزالة الديون ومحاسبة السراق والمُهربين، ليجابه أذناً صماء ووعود كاذبة تخديرية. فما هي الحاجة الى الوساطة العربية أِن كانت مُقترحة من ملك الملوك أو زعماء لاتثق بهم شعوبهم نفسها ووصلوا الى السلطة السياسية عن طريق ألأغتصاب والأنقلابات العسكرية.
لقد حان الوقت أن نُدرك بأن أفضل الخطوات نحو المصالحة الوطنية هو أن نُحصن أنفسنا أولاً من التدخل الخارجي بجميع أشكاله، وقيام الجنة العليا للمصالحة الوطنية في وضع مبادئ عامة للتحري عن حقيقة رغبة أطراف وفصائل عراقية لها قيمة وطنية ووزن أجتماعي عراقي في العمل الوطني قبل تنشيط الدعوة للمشاركة في الحوار والمصالحة الوطنية. أن فتح أبواب المصالحة يجب أن يتم وفق برنامج تطرحه الدولة بأرادتها الحرة علناً وألزام الأطراف المَدعوة (مسبقاً ) لتقديم مشاريع أفكارها ونوعية المشاريع التصحيحة التي لاتقوم على مبدأ العنف السياسي أوأحتكار السلطة على طريقة وطن quot; تشيده الجماجم والدم quot;، وألزامها بتقديم تقييم موضوعي لرؤيتها في كيفية أصلاح أوضاع العراق الاقتصادية المالية المصرفية التجارية مع العالم الخارجي و أيضاح خطوطها السياسية وماتريد تقديمه من حلول للمشاكل القائمة كبداية للحوار قبل أن تقوم الحكومة رسمياً بأجراءات تفعيل عمليات المصالحة. فأعمالنا وليست شعاراتنا هي التي تظهر حقيقتنا. أن من حق العراقيين الذين نَصبوا الحكومة بأرادتهم الحُرّة أن يطالبوا بالأجراءات التي تضمن لهم حرياتهم وحقوقهم وحمايتهم وأخضاع كل المؤسسات والتنظيمات السياسية والعسكرية والدينية في البلاد لقوانين الدولة وألزامها بأنظمتها الأجرائية المُعلنة.
وربما أصعب مافي المصالحة الوطنية عندما لا تتم على أسس توافقية مقبولة سياسيأً وتُسيّر وفق مصالح وأمتيازات ومشاعر دينية. وفي معرض ما بحثتهُ مؤخراً وماأختلفتُ فيه مع بعض الأخوة هو أن الطوائف الدينية متباينة في تفكيرها ورغباتها في التصنيف والتمييز والأجتهاد السياسي والشريعة الأسلامية، وخصوصيات ماتراه كل طائفة في الأخرى ليس فيها ضرر مادامت لاتؤدي الى الفتنة والتخوين والتحريض على القتل. ولعل تجربة التيارات الإسلامية التي مرت بها الساحة السياسية الجزائرية هي خير دليل على فشل تحقيق جبهة مصالحة مع قوى تشتبك مصالحها وأفكارها وتشكك بالدولة وأشخاصها ونظمها الدستورية.
ومن الأزمات التي تراكمت بمرور السنين وأستعصى الحل بشأنها عراقياً، أن حزب العمال الكردستاني يتخذ مواقفاً تجعل تركيا تُطالب وتضغط على قادة العراق بأتخاذ موقف متشدد نحوه. ثم أن التيارات الأسلامية التي تستمد قوتها من خارج العراق كالأئتلاف الأسلامي، والشخصيات السياسية للتيار الصدري، وفصائل عصائب الحق، تثير القوى السنية وتطالب الحكومة بأتخاذ موقف متشدد نحوها. والأمارات الأسلامية الجهادية لتجمع القاعدة والبعث المُسلح يُخيف ويهدد القوى الشيعية في الحكومة وخارجها وتطالب الحكومة لآتخاذ موقف متشدد نحوها. فما هي القوى والفصائل التي ستجتمع للمصالحة؟ وماذا تُمثل؟ وهل هناك شريحة سياسية تُمثل الضمير العراقي من مُحافظة دهوك الى مُحافظة البصرة؟
ضياء الحكيم
[email protected]
التعليقات