في 9 نيسان من عام 2003 كان المفترض أن يسقط في العراق نظام استبدادي بشع كما سقط رأسه المتجبر! وبذا يكون العراق قد تخلص من حقبة طويلة مظلمة غصت بآلام حروب وقمع وانتهاكات رهيبة، وبدأ عهداً جديداً مشرقاً!

لكن ما حدث كما كشفت السنوات الست الماضية إن رأس النظام وحده قد سقط، وسحل تمثاله البرونزي في الشوارع على الطريقة العراقية المتفردة! ثم أعدم كجسد حي فيما بعد بطريقة طائفية منفرة جعلت ضحاياه الكثيرين يعتقدون أنهم لم يقتصوا منه بعد، وإنه بعد أن كان جلادهم صار اليوم ينافسهم على صورة الضحية!

ليس من المبالغة القول أن نظام صدام لم يسقط بعد، فهو ما يزال حياً مثقلاً بأمراضه وعقده وسمومه يمارس كعادته ظلمه وفساده وخرابه وعنفه وفظاظته على الأرض والناس، دون أن يؤدي واجباته في تقديم الخدمات الضرورية،وتنفيذ مشاريع البناء والإنقاذ والتطور!


إن كل ما يتذرع به الرأس الجديد ليلتصق بهذا الجسد القديم كتلة ضخمة من الصمغ هي عبارة عن شرعية استمدها من دستور طائفي عرقي مشوه، وصناديق اقتراع رافقتها الكثير من المغالطات والتأثيرات والأجواء غير الصحية وغير النظيفة مع اقتسامات طائفية وقومية مجحفة تغرد لها شعارات جديدة فضفاضة عن الديمقراطية والحرية والتغيير، والبناء المؤجل حتى إشعار آخر!


إن أبرز الأسباب التي أبقت جسد النظام السابق نابضاً بشراسة حتى اليوم،هي أنه كأي كائن حي يجب أن يقاوم فناءه ويرتكز على غريزة البقاء، وقد وجد بمعادلة الإرهاب والفساد مصدر غذائه وحمايته معاً،فالإرهاب يحمي الفساد، والفساد يغذي الإرهاب، خاصة إذا تم ذلك داخل إهاب الدولة، وفي الهواء الطلق معاً، وقد وجد غطاءه الفكري تحت مفاهيم وطنية زائفة مهلهلة تريد التألق تحت شعار مقاومة الاحتلال!


كما إن إدارة بول بريمر ارتكبت الكثير من الأخطاء وراحت تتخبط بإجراءات مدمرة ومحبطة لآمال الكثيرين،ومثيرة لشكوكهم المشروعة! فهي قد شجعت بل كرست الحكم على أسس المحاصصة الطائفية والقومية، وبذلك طعنت الروح الوطنية ووضعتها على طريق التلاشي والزوال، كما هي بحلها الجيش والشرطة والقوات الأمنية والمخابرات وعدم السعي لتطهيرها وتطويعها وتكيفها للوضع الجديد فتحت الأبواب للفوضى العارمة والهدم دون البناء الصحيح!


كما إنها خذلت مجموعات كبيرة من رجال ونساء العراق المخلصين الذين جاءوا إلى العراق في الساعات الأولى لسقوط رأس النظام وكان أملهم أن يساهموا في بناء العراق،واستبدال جهاز الدولة القديم المنخور، بجهاز حضاري متقن ونظيف وحيوي مستندين على ما يحملون من علم وخبرات ورؤى ونزاهة وشرف وطني، لا على مشاريع الصراع السياسي والتهالك على مغانم السلطة.


ويأتي في مقدمة هؤلاء مجلس إعادة إعمار العراق الذي كان يضم حوالي 150 عضوا من التكنوقراط العراقي رجالاً ونساءً،من مختلف الأديان والطوائف والقوميات،ويحمل معظمهم تحصيلاً علمياً وحضارياً ممتازاً، وقد تركوا حياتهم الناعمة الآمنة في بلدان أمريكا والغرب وجاءوا يتحدون المخاطر المميتة وظروف العيش الصعبة،يحدوهم أمل أنهم سيقومون بإعادة بناء أجهزة الدولة في الفترة بين سقوط رأس النظام وقيام الإدارت الذاتية المنتخبة! مساهمين بذلك في تهيئة الحياة العامة للظروف الديمقراطية الناضجة.


ولكن هذا المجلس تعثر وحوصر وصار يقوم بعمله بكفاح يومي شاق محفوف بالإعاقة والتعجيز وحتى التهديد! ومع ذلك أنجز الكثير من الأعمال الباهرة والرائدة في تلك الفترة العصيبة! لكن إدارة بول بريمر حدت من نشاطه ولم توفر له الأغطية المادية والمعنوية لإنجاز مهمته التاريخية الكبيرة! خاضعة بذلك لضغوط قادة الطوائف والقوميات الذين وجدوا في هذا المجلس عقبة كأداء أمام طموحاتهم لاقتسام السلطة دون منافس. ويلام هذا المجلس أيضاً لعدم تطويره لنفسه،وتحوله إلى حركة توكنقراط علمانية ضاغطة، ومقاومته لهذا الحصار المتعسف، ورفض استسلامه بصمت!


إن انطفاء أحلام وآمال أولئك الرجال والنساء الذين جاءوا مع هذا المجلس أو جاءوا فرادى أو جماعات في تشكيلات مدنية أو إدارية أو فنية لا يعني خيبة خاصة بهم وحسب، بل هو خيبة لمشاريعهم الحضارية الكبيرة، وخيبة أكبر للناس الذين التقت آمالهم معهم وتعاطفوا معهم وكان من المؤمل أن تتكون من التقائهم حركات نخبوية وجماهيرية كبيرة، يمكن أن تكون بديلاً حضارياً وإنسانياً لكل هذه التكتلات والأحزاب العتيقة الرثة المستحوذة على مفاصل النظام السياسي الآن!


والسب الثالث لبقاء النظام السابق هو أن قادة الطوائف وأمراء الحرب الذين استلموا آلة الدولة وتصدروا العملية السياسية في البلاد لم يكن همهم تغير النظام وهيكلة الدولة أو تجديدها بقدر ما كان همهم جعل النظام القديم غطاءً لأطماعهم وشهواتهم في الحكم والاستحواذ والتوسع في الأرض وفي النفوذ، وتحويله إلى شماعة يعلقون عليها فشلهم ونكثهم بوعودهم ولأخطائهم ونواياهم غير الوطنية وغير الإنسانية! وبينما راح الطائفيون من الشيعة يفتحون أبواب الدولة والنظام السياسي للنفوذ الإيراني الحاقد والمدمر، راح الطائفيون من السنة يحتضنون تنظيم القاعدة ويسرحون مع أوهام حمايتهم من قبل النظام العربي السني ! والعنصريون من القادة الكرد لعبوا على الطرفين وفق مصالحهم الشخصية والقومية الضيقة،وكأنهم جميعاً قرروا نحر العراق، أو فرض الانتحار عليه!


إن معظم الحلقات أو قطع الغيار التي ألحقها الحكام الجدد بجسد النظام السابق كانت أشبه بأكياس الدم الفاسد التي تضخ في جسد متورم بداء عضال،لذلك جاءت أكثر بشاعة وجلبت معها الكثير من جراثيم الرشوة والسرقات والتلاعب بالمال العام والأداء السيئ!


أن أحداً لا يستطيع أن يشهد هول بشاعة النظام السابق اللاحق معاً،مثل مواطن عراقي بسيط يذهب ليراجع دوائر الدولة محاولاً الحصول على عمل،أو للعودة إلى وظيفة فقدها بالفصل والسجن أو النفي السياسي في العهد السابق، أو ليسأل عن مصير حصته التموينية التي انقطعت عنه فجأة،أو حتى للحصول على شهادة وفاة لأبنه الذي قضى بإحدى التفجيرات الإرهابية، فيلاقي الويل والثبور من طلبات الرشوة والامتهان والابتزاز من موظفين يبدون لأول وهلة صغاراً، ثم يكتشف أنهم مجرد مخالب قذرة لموظفين كبار، وقادة حزبين أكبر من مختلف الأحزاب!


وهذا ما جعل الناس تترحم على صدام ونظامه لا حباً بهما، بل نفوراً واشمئزازاً مما صار عليه وضع الدولة والنظام السياسي اليوم إذ تراكمت فيهما بشاعة النظام السابق، ودناءة النظام اللاحق !


لا بد من الإقرار أننا أمام وضع تاريخي معقد ومتفاقم ومتصلب جداً، وهو ما يشكل كارثة وطنية كبرى، وبالطبع لا ينبغي أن نفقد الأمل، ولكن لا بد من سؤال: ترى أننا إذا كنا قد احتجنا إلى جيوش احتلال أجنبية جرارة لكي فقط نسقط رأس النظام! فكم سنحتاج لتصفية جسده، وبناء نظام آخر جديد؟

إبراهيم أحمد