اتفق كثير من الباحثين على أن جنة عدن التي شاع ذكرها في الأديان السماوية، هي ارض الرافدين التي عرفت بتطورها الحضاري وازدهارها الاقتصادي على مدى قرون عديدة، الأمر الذي جعلها هدفا لطمع الطامعين وجشع الجشعين منذ فجر التاريخ والى الآن،فسكان الهضاب المجاورة للعراق، كانوا دائما يحلمون بالعيش في السهل العراقي، حيث جنة عدن النابضة بالحياة والعامرة بالخيرات، لكن قوة الأنظمة السياسية الحاكمة في العراق آنذاك كانت تمنعهم من تحقيق هذا الحلم، فتأخذ تلك الأحلام بالتسلل إلى أفكارهم ومعتقداتهم و بالارتباط بوجدانهم وشعورهم، عسى أن يحققوا هذا الحلم ولو بعد انتهاء حياتهم الدنيوية، لان سكان الهضاب المجاورة بحكم ترحالهم المستمر ونبذهم لفكرة الاستقرار، امنوا بفكرة الارتحال عبر الموت من عالم الحياة إلى عالم الآخرة، معتقدين أنهم إذا ما حازوا على رضا قوى الكون، فسيحضون بفرصة العيش في جنة عدن بعد أن حرموا من ذلك في حياتهم، حيث مثل هذا الحلم احد أهم أمانيهم ورغباتهم، فأصبحت هذه الرغبات والأمنيات غير المتحققة،جزءا من وجدانهم الديني وآمالهم الأخروية، وبالتالي بقي اعتقادهم الأخروي قائما رغم تمكنهم من دخول بلاد الرافدين وتحقيق حلم الوصول إلى جنة عدن خلال الحياة لا بعدها،مستغلين فترات الضعف التي تشهدها البلاد من حين لأخر.


لكن جنة عدن الدنيوية لم تكن جديرة بحمل هذا اللقب على الدوام، لاسيما عندما يداهمها الخراب والدمار في أثناء الغزوات التي تتعرض لها بين الفينة والأخرى أو خلال أوقات الاضطراب، الأمر الذي يحولها من جنة مزدهرة إلى جحيم ممتلئ بالموت والخراب، مايدفع كثير من سكانها إلى الهرب وطلب النجاة، بالبحث عن وطن جديد يعوضهم عن الوطن الجحيم الذي كانوا فيه.


وبالتالي كانت بلاد الرافدين تتقلب بين وضع يشبه الجنة ووضع يقارب الجحيم، حسب ظروف البلاد ووضعها السياسي،فإذا كان النظام السياسي الذي يدير البلد قويا ومستقرا انعكس ذلك على واقع البلاد وأحوال السكان الاقتصادية والاجتماعية، وإذا كان النظام السياسي عكس ذلك ضعيفا ومضطربا، تحولت البلاد إلى مرتع للمجرمين والمغامرين وهدفا للغزاة والطامعين، الأمر الذي يجعل من ارض العراق مكانا مخيفا، وأرضا ينخر فيها الرعب والدمار، بعد أن تغمرها سيول الدماء وينتشر فيها الخراب، وهو ما حصل في الكثير من فترات التاريخ، الأمر الذي وسم تاريخ العراق بطابع الاضطراب المستمر و اللا استقرار، ولعل العراق بخلاف الكثير من البلدان،عرف فترات من الإزهار قل مثيلها، غدا فيها البلد في أعلى درجات الرفاه والاستقرار، الأمر الذي وضعه في مقدمة البلدان ذات التأثير الحضاري والتي تمتاز بسمعتها الدولية، كما هو الحال في عصر السومريين والبابليين والآشوريين والعباسيين، لكنه بالمقابل عرف فترات من السقم والفوضى لم يمر بمثلها بلد أخر، كما هو الحال في عهود مابعد سقوط حضارة بلاد الرافدين القديمة أواسط الألف الأول قبل الميلاد، أو في عهود المغول والعثمانيين في العصر الحديث.


ونفس الشيء حصل في الفترة المعاصرة، إذ تقلبت أوضاع البلد حسب النظام السياسي السائد فيه، وكان التاريخ العراقي لاينفك يعيش دورة أبدية بين وضع الجحيم ووضع النعيم، ولأننا نعرف بالتأكيد السبب الأساس لهذا التقلب وندرك أبعاده الأساسية، لابد لنا من بناء نهج سليم يجنبنا إياه ويمنع ارتداد البلاد إلى الفوضى من جديد، فالحل يكمن في تدعيم بناء البلاد السياسي ونهجها الديمقراطي، حتى نستطيع تجاوز المصاعب ومواجهة المشاكل وصولا إلى تحقيق الأفضل، وبالتالي يجب أن نعي درس التاريخ جيدا حتى لانعيد دورة الماضي، فالشر كل الشر بالاستبداد والتخلف والاختلاف والانقسام، ولذلك لابد أن نستثمر الفرصة الجديدة فرصة الاستقرار والديمقراطية، من اجل إعادة لقب الجنة إلى بلاد الرافدين، فهل نستطيع ذلك؟ لاشك أن جنتنا لن تعود إلا في ظل أوضاع آمنة ومستقرة وليس هناك بأفضل من الديمقراطية التي يمكنها لوحدها إعادة الالق إلى البلاد فالجنة تحت أقدام الديمقراطية.

باسم محمد حبيب