مشاهداتي من المهجر

بكل تواضع، أقدم نفسي لأفاضلكم، غريبٌ مزمنٌ كتب عليه السفر ترياقاً لم أسعَ إليه، فقبل أن أملك زمام أمري إعتاد ذويِّ السفر إما قسرًا أو لبحبوحة حتى أكملت سِنِيَّ الدراسة المدرسية، ثلاثً هي عدد المدارس التي إرتَدْت، في ثلاثِ دولٍ مختلفةٍ تحويها قارتين، أعقبتها أعوام الجامعة التي لم تكون أكثر لطفا مرتحلاً من مكان لآخر حتى تخرجت حاملا معي عدة صور رمادية عن طفولة ومراهقة وسنين بمجملها مضنية.

مع الوقت، أدركت أن ما مررت به كان كما التعقيم، فكرته تقوم على إعطاء عينةِ مرضٍ صغيرة لجسد سليم كي تكسر شوكته ndash; أعني المرض ndash; تاركة الجسد عصياً عن مهاجمته مجددا، وهكذا أصبحت، صلدا قليل الألم أحزن وأفرح في مناسبات قلة، وحتى هذه تكون مشاطرة لغيري، وفي إحدى أواخر حلقات تغرُّبي أبيت هذه المرة إلا أن أسكنْ أرض الظلمات، نيوزلندا،وهي لمن لايعرفها جمهورية تقع خارج الدنيا التي نعي أقصي جنوب شرق كرتنا الأرضية، أغلب فضائياتنا تصل لحدود أستراليا فقط في نشرتها الجوية وتهمل ما دونها قافزة المحيط الهادي نحو أمريكا وكندا، ولهم كل الحق في ذلك، كيف لا وقبل بضع مئات من السنين فقط ظن الجميع قبل أن يأتي جاليليو بنظرية الأرض غير المسطحة مخالفا الإعتقاد السائد آنذاك أن لا شيئ بعدها وأنها مركز تجمع أرواح الأرض الشريرة، غير أنها أبعد ما تكون عن تلك الصورة البغيضة، إذ أنها تعد جنة الله على الأرض أُناسُها فلاحين بسطاء ولكنهم معتَدِّين بأنفسهم معتمدين في ذلك على بُعدِ المسافة التي تفصل بينهم وأي بلد أخرمحتفظين بخصوصية يُحسدون عليها، كل هذا وأكثر جعلها غاية في الهدوء قبلةً للحالمين متخذة من طبيعتها الهادئة هدفا لمخرجي الأفلام الخيالية مثل quot;سيد الخواتمquot; بأجزائه الثلاث وغيره لما يوفره هذا لصانعي الأفلام من أرباحٍ لإنتفاء الحاجة لأي خدع بصرية، فكل شيئ هناك يوحي وكأننا في كوكب آخر.


عرب تلك البلد ليسوا بجالية، بضعة وعشرون ألفا ضمن خمسَ ملايين نسمة هو تعداد نيوزلندا، لم يكن لنا تجمع ما، بل وحتى شارعا نقصده، فشلنا أن نتخذ من الصينيين أسوة مع حفظ الفارق حيث أن تعدادهم قد عبر المليون نسمة ومازالوا في إزدياد، لديهم بصمة في كل بلد، حياًّ صينياًّ يقصده الناس طمعا في بضاعة مهربة أو معلبات رخيصة، لا أذكر أني تحدثت العربية يوما، حتى مع من أضنهم شرق أوسطيو الملامح، هناك يتشابه العرب والأتراك والإيرانيون وبعض فاتحي البشرة من الباكستانين والأفغان، كلنا نشترك بأننا لسنا أوروبيو الملامح ولسنا صينيين، تجمعنا أرضا نتشاركها مع سكانها الأصليين، لم أختبر يوما ظلما نتج عن لون بشرتي العربية السمراء، ومما زاد في إعتقادي هذا أنني كنت قريبا بما فيه الكفاية كي أشاهد واقعة أتذكرها حتى اليوم كصدمة أولى، بطلاها رجل يشبهني - لعله من أحدى الدول التي ذكرت ndash; مع رجل من أهل البلد، كان الأول يمشي الهنيهة ممسكا بعلبة ما لبث أن ألقاها على الأرض كي يتلقفها الثاني بعده ويلحق به رابتا على كتفه من الخلف قائلا بأدب جم:quot; سيدي... لقد سقطت هذه منك quot;، لم يقل غيرها، بل لعله لم يكن بحاجة أن يقول كلمة أخرى، ولو كان فعل مثلما إعتقدت أنه بفاعل لمَّا لحق بصاحبنا ملقي العلبة من التلفظ بشيئ عنصري النزعة لربما إستعداني عليه، بل ولربما كنت قد ُأستَدْرج معه بمشادة مصدرها إحساسا دفينا أننا ضحية عداء ما يأتينا دائما من quot;الآخرquot;، وأننا مهانون في مهجرنا ملاقون شتى صنوف التقريع سواء ارتكبنا ذنبا أم لم نرتكب، ولكن رجلي هذا ببساطة لم يفعل، إختصر الدرس الذي لم يقصد أن يعلمني إياه عن طبيعة سكان تلك الأرض التي أخترت لي بتلك الجملة البسيطة quot;سيدي... لقد سقطت هذه منكquot;، حمل بعدها من كان يتحدث إليه العلبة إلى أقرب سلة مهملات حاملا حيرتي معه، لماذا أصبح النظام والحث عليه حكرا على غيرنا، لماذا أحساسنا بالمسؤولية والتنظيم مرهون بمراقبة الآخرين لنا، فإن إنعدمت المراقبة غاب الضمير، كيف تكدست كل السلبيات فينا ونحن أمة فيها من قال أن الإيمان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، كيف تركنا أناس يسبقونا هم في غالبيتهم لا دينيون، لا يؤمنون بالله، ولكن على درجة من النضج سمحت لهم أن يدركوا أن النظافة والتنظيم ليست بحاجة لأمر سماوي، فهي غريزة نحن فقط من خدرها متخذين الأكل والشرب عنها بديل.


لم لا نحث على العمل بديلا عن التباكي على مجد ضائع كان صانعوه ممن وصلوا بحدود خير أمة إلى الصين بأحرص الناس عليه، أليس أسوتنا وحبيبنا محمد هو من قال: quot;...فنظفوا أفنيتكم... quot;، كيف نسيناها نحن ووعيها تشرتشل الذي قال جملته الشهيرة للبريطانيين أبان الحرب العالمية الثانية عندما عجزت خزانة الدولة عن تأمين ميزانية الشؤون البلدية quot; إن نظف كل منا أمام داره، فستصبح لندن نظيفةquot; !

هي حجري الأول ألقيه في البركة الراكدة، عسى أن يعيها كل ذي عقل، تتبعها مشاهدات أخرى مما رأيت وما كان من أمرِ أناسٌ تعلمت منهم الكثير، وعرفت أكثر عن حالنا من خلالهم، فلا أدري، اكنت أشاهدهم، أم أشاهد نفسي

أحمد العدنان

لمراسلة الكاتب:
[email protected]