من مضحكاتنا العراقية المبكية أن حكامنا يقتلون باسم الوطن والشعب والكرامة، وأن معارضيهم يقتلون باسم الوطن والشعب والكرامة كذلك.

ومن يستعيد تفاصيل ما حدث، منذ قيام دولة العراق الحديث عام 1921 وإلى اليوم، يجد أن ما حدث في التاسع عشر من آذار/مارس 2003 ليس غريبا أو مفاجئا أو حدثا مستجدا مقطوع العلاقة بما كان يحدث من نصف قرن أو يزيد من الإحتراب الدامي.

فمن انقلاب تموز/يوليو 8195 الذي أطاح بالعهد الملكي البائد، الى أحداث الموصل وكركوك في العام1959 ضد العرب والتركمان في أعقاب تمرد الشواف ضد سلطة الزعيم الأوحد والحزب الشيوعي العراقي واليسار، وإلى انقلاب شباط/فبراير 1963 الذي تفنن فيه فرسان الحرس القومي في الانتقام من الزعيم ومن الشيوعيين واليساريين، ثم عودة حزب البعث وصدام حسين في العام 1968 الى دائرة العنف الثوري القومي العربي الكاسح ضد الجميع، حتى ضد رفاق العقيدة وشركاء المصير، وطاحونة القتل الوطني لا تتوقف عن الدوران.

وما نشهده اليوم في العراق ليس غريبا ولا جديدا. فهو نفسه الذي حدث وظل يحدث منذ أن كانت الولايات العراقية (إن صحت التسمية) تحت الإحتلال العثماني، ثم منذ اندلاع المعارضة الحسينية الهاشمية واصطفافها مع الانكليز ضد العثمانيين، وما تلا ذلك من تأسيس الدولة العراقية على أكتاف السياسيين والعسكريين العراقيين الموالين للاحتلال البريطاني، ثم سقوط النظام الملكي وبدء الحروب العسكرية الأهلية المتنوعة، وحتى مجيء صدام حسين، وسقوطه، ودخول معارضيه ليرثوا الأرض وما تحتها وما فوقها، بدبابات الأمريكان وأموالهم ودماء جنودهم، وليس بمباديء أحزابهم وجماهيرها وقوتها الذاتية الخالصة.

ومن المبالغة الصارخة قول بعض العراقيين والعرب إن الذي جاء بالاحتلال الأمريكي للعراق، وتسبب في انهيار الحياة المدنية فيه، وقيام سلطة المليشيات وأحزاب المخابرات الشقيقة والصديقة، هو صدام حسين بظلمه وحروبه وعبث أبنائه وأهله وأعوانه المقربين. ومع الإقرار بأن هذا كان السبب المباشر والمبرر المنطقي المقبول، فإن الذي حدث كان مقرر الحدوث. وهو صولة من صولات، وجولة من جولات، لم ولن يتوقف مسلسلها في العراق. فهذا ينتصر اليوم على (إخوانه) فيجتثهم، ثم يسقط غدا، فيأتي عدوه (الشقيق) ليجتثه من جديد. وكل انتصار يحققه أي طرف على رفاقه كان سقوطه آتيا لا محالة. وقد تعود العراقيون، عند كل انتصار، على انتظار سقوط أصحابه عما قريب.

وما حدث في التاسع من نيسان/ أبريل 2003 كان صفقة مصالح بين دولة كبرى هائلة ليس لقواها التدميرية العسكرية والسياسية والاقتصادية مثيل في التاريخ البشري، حكمت مصالحها العليا باجتياح العراق بالذات، لحسابات خاصة بها، قريبة وبعيدة، وبين شلة من ثلاثة أنواع من العراقيين. الأول كان مندفعا بغيرة وطنية صادقة في خلاص الوطن من ظلم صدام ونظامه، ثم انزلق إلى الخطيئة، فزعم أن حالة اليأس المطبق من إمكان صلاح نظام الديكتاتور أباحت له الموافقة على الاحتلال الخارجي لوطنه، بعد تقطعت جميع السبل الداخلية لتحقيق ذلك. أما الثاني فكان شلة من الانتهازيين المهووسين بالسلطة والثروة والجاه، حتى لو كان ثمن الحصول عليها خيانة الوطن وبيعه لمن يعينهم على اغتصاب السلطة والتفرد بها، متخذين من حجج متنوعة، طائفية أو عنصرية، أغطية يسترون بها تلك الخيانة.

صحيح أن صدام حسين كان السبب المباشر لسقوط العراق تحت أقدام الغزاة وحلفائهم العراقيين الشطار، لكن ذلك كان سيحصل، مهما فعل صدام ومها تدبر. ولا يخفى أنه بذل كل ما في وسعه، عبر وسطاء عراقيين وعرب وأوربيين، لتفادي الهجمة الأمريكية، ليس عليه وعلى نظامه وحسب، بل على العراق نفسه، أرضا وموقعا، لأهداف أبعد من العراق ومن العروبة والإسلام معا.

وما قيل عن مظلومية الشيعة والأكراد العراقيين لم يكن أكثر من كلمة حق أراد بها باطل أؤلئك المتاجرون بالطائفية والعنصرية، على طريقة: لا تقربوا الصلاة. فمنذ أن ركبوا على ظهور مواطنيهم في التاسع من نيسان /أبريل 2003، وانتزعوا، باسم عذاباتهم، حصصهم من كراسي المحاصصة، لم يشغلوا أنفسهم بهموم مواطنيهم، بقدر ما غرقوا في الامتيازات والمكاسب والرواتب والمخصصات والمساكن. وأشد الشكاوى مرارة من الإهمال والغبن والعقوق صدرت وتصدر باستمرار من الأكراد الفيليين، ومن أهالي حلبجة، ومن عوائل شهداء الانتفاضة، ومن اللاجئين السابقين والحاليين في إيران وسوريا، الأكثر تعرضا لظلم النظام السابق. وهذا ما جعل كثيرين من العراقيين يترحمون على صدام، ويغفرون له كثريرا من أفعاله المنكرة، ويقللون من اتهامه بظلم الشيعة والأكراد، بل يميلون إلى اعتباره (ديكتاتورا صنعه معارضوه.)

ويضربون على ذلك مثلا بانتفاضة 1991 وما حدث فيها ولها. فمع أن دوافعها الأولى كانت شعبية عفوية ونقية أشعلها ظلم النظام، إلا أن ظهور الأعلام الإيرانية وصور الخميني واندفاع مئات المتسللين من إيران بثياب معارضين عراقيين، تحت رايات منظمة بدر وحزب الدعوة، أعطى صدام حسين فرصة التقاط أنفاس نظامه، ومن ثم البطش المفرط بالانتفاضة وأهلها. ولا ينسى العراقيون تلك الأيام السوداء المخيفة. فهم ما زالوا يتحدثون عن حالة الفلتان التي عمت مناطق الجنوب والشمال، وما رافقها من عمليات سلب ونهب وقتل وانتقام وتصفية حسابات.

وكثيرا ما نجد بعض السياسيين والكتاب العراقيين والعرب يشطحون وهم يحاولون تجميل وجه النظام القبيح، فيزعمون بأن صدام حسين لم يعمد، في أعقاب قضائه على الانتفاضة، إلى رفع مستوى عنفه الدموي إلا لحماية الوطن مما حدث يوم التاسع من نيسان/أبريل 2003 وما بعده من الخراب والفساد والاحتراب الطائفي والقومي، وتقاسم النفوذ بين دول الجوار.

ويغفر البعض لصدام حسين لجوءه إلى القبضة الحديدية الساحقة ضد فئات معينة من العراقيين جندت أتباعها في جيوش الدول الأجنبية التي كان هو في حالة حرب معها، (مهما تكن عدالة تلك الحرب وأسبابها)، فقاموا باحتلال أراض ومدن وقرى من وطنهم لحساب دولة أو دول معادية. هذا مع الرفض القاطع والنهائي لكل ما فعله صدام حسين وعلي كيمياوي في ردهما الهمجي المتعسف على ذلك الاصطفاف الذي لا شك في أنه في بعض وجوهه، ورغم كل مبررات أصحابه، خيانة للوطن تستحق الحساب.

وأعتذر لقرائي لأنني أحاول هنا أن أقحم نفسي في عالم التحليل السياسي، وما أنا بخبير لا في السياسة ولا في التحليل، ولكنها أسئلة وأفكار تدق على قلبي ولساني فلا أستطيع خنقها.

وبعد كل ما تقدم أتساءل، هل كان تحالف المعارضين العراقيين مع إيران وأمريكا وإسرائيل هو الشرارة التي أشعلت في نفسه نار ذلك الحقد الأعمى والميل المَرَضي إلى إنزال العقاب الجماعي العشوائي بكل من يشك في ولائهم، وخلقت منه ديكتاتورا فريدا من نوعه في التاريخ العربي الحديث، لمواجهة ذلك التحالف، أم إنه أم إنه كان شريرا بالولادة غلبه طبعه المشاكس فباشر مسلسل العنف الدموي، دافعا بمعارضيه إلى أحضان أعدائه الإيرانيين والأمريكان والإسرائيليين؟

شخصيا ما زلت أميل الى تصديق الأسطورة التي تقول إنه كان مسكونا بالجن، منذ ولادته، وإن ذلك الجن هو الذي صنع منه تلك الأعجوبة، وهو الذي قاده الى الحفرة التي وجده فيها جنود بريمر، لينتشي بوش وأعوانه من الأمريكيين والاسرائيليين والعراقيين، على حد سواء.

فقد تحول صدام، بعناده وعنجهيته، الى صخرة معرقلة على سكة القطار الأمريكي الجامح، ولم يعد أمام الفيل الأمريكي سوى المرور على جثة الوطن العراقي كله لكي يدفن صدام ونظامه، وينطلق بعد ذلك الى عواصم عربية وإقليمية أخرى، ليعيد رسم العالم على هواه من جديد، وفق مصالح أمريكا العليا القريبة والبعيدة.

وليس من شك في أن صدام حسين كان ذكيا خارق الذكاء، لكنه كان ينفق ذلك الذكاء في معاركه المتواصلة الساخنة التي كان مولعا بها للحفاظ على جبروته ولقهر أعدائه الكثيرين. كان عبقريا حقيقيا في دقة المتابعة، وفي الصبر على دقائق الأمور وتفاصيلها، عظيمها وحقيرها معا. وكان موهوبا عجيبا في حفظ الأسماء والمراكز والحوادث والتواريخ، ممسكا، بقوة، بكل صغيرة وكبيرة، في الحزب والحكومة. فهو لم يشغل نفسه، وهو الحاكم المحنك، بجوع شعبه وأنينه اليومي الجارح، بقدر ما كان منخرطا بجنون وحرارة وحماس، في معارك حليفه الصغير ميشيل عون، مثلا، أو الإشراف الشخصي على اغتيال طالب السهيل في بيروت، مع ما يتطلب ذلك من متابعة لتطورات وتفاصيل هي من صميم اختصاص أعوانه وموظفيه. وكان يشرف بنفسه وبشكل يومي على عمليات شراء الصحف والإذاعات ومحطات التلفزيون والأحزاب والمنظمات والشعوب وقادة الدول الذين كان يعتقد بأنهم سوره الحديدي الأكيد الذي يحمي ملكه من الزوال.

وفي عز اشتباكه السياسي والأمني والعسكري والاقتصادي مع أمريكا، وفي أحلك أيام الحصار الدولي لنظامه، كان يجد الوقت الكافي للضحك والقهقهة، فيجمع حوله كثيرا من المهرجين، لكنه لم يلكلف نفسه ولو قليلا بإجراء غربلة عقلانية موضوعية عاقلة وعادلة لأوضاع المعارضة العراقية (الخارجية والداخلية)، فيفرز الوطني النزيه منها عن العميل الرخيص، ويتنازل عن بعض جموحه ويتصالح مع قوى وشرائح واسعة ومهمة من شعبه، عربية وكردية، شيعية وسنية، فيمنح الوطن قوة ذاتية عظيمة كفيلة بحمايته من السقوط في ظلام الاحتراب الطائفي العنصري البغيض. وقد أثبت الزمن أن المعارضة العراقية لم تكن كلها عميلة، كما لم تكن كلها نزيهة أيضا.

وعموما فهذا هو العراق. فمن أول ظهوره على خارطة المنطقة، كان وطن الغيوم والرعود والعواصف. وما دولة الرماد الجديدة التي أقامها زملاؤنا المعارضون السابقون سوى واحدة ورثت شقيقاتها السابقات من دول الرماد العراقية البائدة. ولا أشك أبدا في أن ما حدث في التاسع من نيسان/ أبريل لن يكون سوى موجة عابرة في بحر العراق الذي لا يكف عن الهيجان. ولعل القوى الخفية تعرف فيه ذلك وتستغله بعناية ودراية، فلا تمنحه الفرصة لأن يجنح للسلم الداخلي، فيرتاح ويريح.

إبراهيم الزبيدي